ولما كان على أنهى ما يكون من الجمال والخلال الصالحة والكمال، فكان بحيث يستبعد غاية الاستبعاد أن يتعوذ منه أكدت فقالت :﴿إني أعوذ بالرحمن﴾ ربي الذي رحمته عامة لجميع عباده في الدنيا والآخرة، وله بنا خصوصية في إسباغ الرحمة وإتمام النعمة ﴿منك﴾ ولما تفرست فيه - بما أنار الله من بصيرتها وأصفى من سريرتها - التقوى، ألهبته وهيجته للعمل بمضمون هذه الاستعاذة بقولها :﴿إن كنت تقياً * قال﴾ جبرئيل عليه السلام مجيباً لها بما معناه : إني لست ممن تخشين أن يكون متهماً، مؤكداً لأجل استعاذتها، ﴿إنما أنا رسول ربك﴾ أي الذي عذت به أي فأنا لست متهماً، متصف بما ذكرت وزيادة الرسلية، وعبر باسم الرب المتقضي للإحسان لطفاً بها، ولأن هذه السورة مصدره بالرحمة، ومن أعظم مقاصدها تعداد النعم على خلص عباده ﴿لأهب﴾ بأمره أو ليهب هو على القراءة الأخرى ﴿لك﴾ وقدم المتعلق تشويقاً إلأى المفعول ليكون أوقع في النفس ؛ ثم بينه معبراً بما هو أكثر خيراً وأقعد في باب البشرى وأنسب لمقصود السورة مع أنه لا ينافي ما ذكر في آل عمران بقوله :﴿غلاماً﴾ أي ولداً ذكراً في غايىة القوة والرجولية ﴿زكياً *﴾ طاهراً من كل ما يدنس البش : نامياً على الخير والبركة ﴿قالت﴾ مريم :﴿أنّى﴾ أي من أين وكيف ﴿يكون لي غلام﴾ ألده ﴿ولم يمسسني بشر﴾ بنكاح أصلاً حلال ولا غيره بشبهة ولا غيرها.
٥٢٧
ولما هالها هذا الأمر، أداها الحال إلى غاية الإسراع في إلقاء ما تريد من المعاني لها لعلها تستريح مما تصورته، فضاق عليها المقام، فأوجزت حتى بحذف النون من " كان " ولتفهم أن هذا المعنى منفي كونه على أبلغ وجوهه فقالت ﴿ولم أك﴾.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٢٦


الصفحة التالية
Icon