ولما كان من القدرة الباهرة ثبات الأرض من غير حركة، ودل الماء أدل دليل على ثباتها، وكانت الأرض أقرب في الذكر من السماء، أتبع ذلك قوله :﴿وجعلنا﴾ بما لنا من العظمة ﴿في الأرض﴾ جبالاً ﴿رواسي﴾ أي ثوابت، كراهة ﴿أن تميد بهم﴾ وتضطرب فتهلك المياه كل شيء حي فيعود نفعها ضراً وخيرها شراً.
ولما كان المراد من المراسي الشدة والحزونة لتقوى على الثبات والتثبيت، وكان ذلك مقتضياً لإبعادها وحفظها عن الذلة والليونة، بين أنه أخرق فيها العادة ليعلم أنه قادر مختار لكل ما يريد فقال :﴿وجعلنا﴾ بما لنا من القدرة الباهرة والحكمة البالغة ﴿فيها﴾ أي الجبال مع حزونتها ﴿فجاجاً﴾ أي مسالك واسعة سهلة ؛ ثم ابدل منها قوله :﴿سبلاً﴾ أي مذللة للسلوك، ولولا ذلك اتعسر أو تعذر الوصول إلى بعض البلاد ﴿لعلهم يهتدون*﴾ إلى منافعهم في ديارهم وغيرها، وإلى ما فيها من دلائل الوحدانية وغيرها فيعلموا أن وجودها لو كان بالطبيعة كانت على نمط واحد مساوية للأرض متساوية في الوصف، وأن كونها على غير ذلك دال على أن صانعها قادر مختار متفرد بأوصاف الكمال.
٨٠
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٧٨
ولما دلهم بالسموات والأرض على عظمته، ثم فصل بعض ما في الأرض لملابستهم له، وخص الجبال لكثرتها في بلادهم، أتبعه السماء فقال :﴿وجعلنا﴾ أي بعظمتنا ﴿السماء﴾ وأفرادها بإرادة الجنس لأن أكثر الناس لا يشاهدون منها إلا الدنيا ولأن الحفظ للشيء الواحد أقن ﴿سقفاً﴾ أي للأرض لا فرق بينها وبين ما يعهد من السقوف إلا أن ما يعهد لا يسقط منه إلا ما يضر، وهذه مشحونة بالمنافع فأكثر ما ينزل منها ما لا غنى للناس عنه من الآت الضياء وعلامات لاهتداء والزينة التي لا يقدر قدرها.


الصفحة التالية
Icon