ولما وصل بهم إلى هذا الحد من البيان، فدخصت حجتهم، وبان عجزهم، وظهر الحق، واندفع الباطل، فانقطعوا انقطاعاً فاضحاً، أشار سبحانه إلى الإخبار عن ذلك بقوله استئنافاً :﴿قالوا﴾ عادلين إلى العناد واستعمال القوة الحسية :﴿حرقوه﴾ بالنار لتكونوا قد فعلتم فيه فعلاً هو أعظم مما فعل بآلهتكم ﴿وانصروا آلهتكم﴾ التي جعلها جذاذاً ؛ وأشاء التعبير - بأداة الشك وفعل الكون واسم الفاعل إلى أن أذاه لا يسوغ، وليس الحامل عليه إلا حيلة غلبت على الفطرة الأولى السليمة - في قوله :﴿إن كنتم فاعلين﴾ أي النصرة لها، فإن النار أهول المعقبات وأفظعها، فهي أزجر لمن يريد مثل هذا الفعل، واتركوا الجدال فإنه يورث ضد ما تريدون، ويؤثر عكس ما تطلبون، فعزموا على ذلك فجمعوا الحطب شهراً ووضعوه في جوبة من الأرض أحاطوا بها جداراً كما في الصافات حتى كان ذلك الحطب كالجبل، وأضرموا فيه النار حتى كان على صفة لم بوجد في الأرض قط مثلها، حتى إن كان الطئر ليمر بها في الجو فيحترق، ثم ألقوه فيها بالمنجنيق فقال : حسبي الله ونعم الوكيل - أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولأبي يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال :"لما القي إبراهيم عليه السلام في النار قال : اللهم! إنك في السماء واحد وأنا في الأرض واحد، عبدك" وقال البغوي : أتاه خاون المياه فقال : إن أردت أخمدت النار، وأتاه خازن الرياح فقال : إن شئت طيرت النار في الهواء، فقال لإبراهيم : لا حاجة لي إليكم حسبي الله ونعم الوكيل.
فأراد الله الذي له القوة جميعاً سلامته منها، فعبر عن ذلك بقوله سبحانه استئنافاً لجواب من زاد تشوفه إلى ما كان من أمره بعد الإلقاء فيها :﴿قلنا﴾ أي بعظمتنا ﴿يا نار كوني برداً﴾ بإرادتنا التي لا يتخلف عنها مراد ﴿برداً﴾.
ولما كان البرد قد يكون ضاراً قال :﴿وسلاماً﴾ فكانت كذلك، فلم تحرق منه إلا وثاقه.