ولما كان هذا ابتداء الأمر بالجهاد، وكان عقب ما آذى أعداؤه أولياءه، فطال أذاهم لهم، فكان التقدير كما أرشد إليه العطف على غير مذكور، عطفاً على ﴿ولولا دفع﴾ فااّه بادئة الأمور، عطف عليه قوله :﴿والله﴾ أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء ﴿عاقبة الأمور*﴾ فتمكينهم كائن لا محالة، لكن ذكره للعاقبة وطيه للبادئة منبه على أنه تعالى يجعل للشيطان - كما هو المشاهد في الأغلب - حظاً في البادئة، ليتيبن الصادق من الكاذب، والمزلزل من اثابت، وأما العاقبة فهي متمحضة له إلى أن يكون آخرذلك القيامة التي لا يكون لأحد فيها أنمر، حتى أنه لا ينطق أحد إلا بإذن خاص.
ولما كان في ترغيب هذه الآيات وترهيبها ما يعطف العاقل، ويصقصف الجاهل، طوي حكم العاقل لفهمه ما سبق، وهو : فإنه يؤمنوا بك مكناهم في الأرض، ودل عليه بعطف حكم
١٥٨
الجاهل على غير مدكور في سياق يسلي به نبيه ﷺ ويعزيه، ويؤنسه ويواسيه، فقال ﴿وإن يكذبوك﴾ أى أخذتهم وإن كانوا أمكن الناس، فقد فعلت بمن قبلهم ذلك، فلا يحزنك أمرهم ﴿فقد كذبت﴾ وأتى سبحانه بتاء التأنيث تحقيراً للمكذبين في قدرته وإن كانوا أشد الناس.
ولما كانت هذه لأمم لهظمهم وتمادي أزمانهم كأنهم قد استغرقوا الزمان كلهن لم يأت بالجار فقال :﴿قبلهم قوم نوح﴾ وكانوا أطول الناس أعماراً، واشدهم اقتداراً ؛ ولما لم يتعلق في هذا السياق غرض بالمخالفة في ترتيبهم، ساقهم على حسب ترتبيهم في الوجود فقال :﴿وعاد﴾ أى ذوو الأبدان الشداد ﴿وثمود*﴾ أولو الأبنية الطوال، في السهول والجبال ﴿وقوم إبراهيم﴾ المتجبرون المتكبرون ﴿وقم لوط*﴾ الأنجاس، بما لم يسبقهم إليه أحد من الناس ﴿وأصحاب مدين﴾ أرباب الموال، المجموعة من خزائن الضلال.


الصفحة التالية
Icon