ولما كان قد أملى لكل قوم حتى طال عليهم الزمن، فلما لم يهدهم عقولهم لما نصب لهم من الأدلة، وأسبغ عليهم من النعم، وأحل بالمكذبين قبلهم من النقم، أرسل فيهم رسولاً، دل على ذلك بأداة التراخي فقال :﴿ثم ارسلنا﴾ أي بعد إنشاء كل قرن منهم وطول إمهالنا له، ومن هنا يعلم أن بين كل رسولين فترة، وأضاف الرسل إليه لأنه في مقام العظمة وزيادة في التسلية فقال :﴿رسلنا تترا﴾ أى واحداً بعد واحد ؛ قال الرازي : من وتر القوس لاتصاله.
وقال البغوي : واترت الخبر : اتبعت بعضه بعضاً وبين الخبرين هنيهة.
وقال الأصبهاني : والأصل : وترى، فقلبت الواو تاء كما قلبوها في التقوى.
فجاء كل رسول إلى أمته قائلاً : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.
ولما كان كأنه قيل : فكان ماذا ؟ قيل :﴿كلما جاء أمة﴾ ولما كان في بيان التكذيب، اضاف الرسول إليهم، ذماً لهم لأن يخصوا بالكرامة فيأبوها ولقصد التسلية أيضاً فقال :﴿رسولها﴾ أي بما أمرناه به من التوحيد.
ولما كان الأكثر من كل أمة مكذباً، اسند الفعل إلى الكل فقال :﴿كذبوه﴾ أي كما فعل هؤلاء بك لما أمرتهم بذلك ﴿فأتبعنا﴾ القون بسبب تكذيبهم ﴿بعضهم بعضاً﴾ في الإهلاك، فكنا نهلك الأمة كلها في آن واحد، بعضهم بالصيحة، وبعضهم بالرجفة
٢٠١
وبعضهم بالخسف، وبعضهم بغير ذلك، فدل أخذنا لهم على غير العادة - من إهلاكنا لهم جميعاً وإنجاء الرسل ومن صدقهم والمخالفة بينهم في نوع العذاب - أنا نحن الفاعلون بهم ذلك باختيارنا لا الدهر، وأنا ما فعلناه ذلك إلا بسبب التكذيب.
ولما كانوا قد ذهبوا لم يبق عند الناس منهم إلا أخبارهم، جعلوا إياها، فقال :﴿وجعلناهم أحاديث﴾ أي أخباراً يسمر بها ويتعجب منها ليكونوا عظة للمستبصرين فيعلموا أنه لا يفلخ الكافرون ولا يخيب المؤمنون، وماأحسن قول القائل :
ولا شيء يدوم فكن حديثاً جميل الذكر فالدنيا حديث