ولما كان من المعلوم أن العالم بكل شيء قادر على شيء كما مضى تقريره في سورة طه، وكانت العادة جارية بأن من علم استخفاف غيره به وكان قادراً عليه عاجله بالأخذ، أجيب من كأنه قال : فما له لا يهلك المكذبين له ؟ بقوله مرغباً لهم في التوبة، مشيراً غلىقدرته بالستر والإنعام، ومبيناً لفائدة إنزاله إليهم هذا الذكر من الرجوع عما تمادت عليه أزمانهم من الكفر وأنواع المعاصي :﴿إنه كان﴾ أزلاً وأبداً ﴿غفوراً﴾ أى بليغ الستر لما يريد من ذنوب عباده، بأن لا يعاتبهم عليها ولا يؤاخذهم بها ﴿رحيماً*﴾ بهم في الأنعام عليهم بعد خلقهم، برزقهم وتركيب العقول فيهم، ونصب الأدلة لهم، وإرسال الرسل وإنزال الكتب فيهم، وأمهالهم في تكذيبهم، أي فليس لإمهالهم ووعظهم بما نزله إليهم سبب إلا رحمته وغفرانه وعلمه بأن كتابه صلاح لأحوالهم في الدارين.
ولما أتم سبحانه ما أراد من ذكر المنزل والمنزل، وأخبر عن طعنهم في المنزل الذي هو المقصود بالذات من الرسالة، وأقام تعالى ذلك الدليل على كذبهم، أتبعه الإخبار عن طعنهم في الرسول الآتي به، فقال معجباً عقولهم التي يعدونها أصفى العقول أفكاراً، وأعلاها آثاراً، فيما أبدوه من ذلك مما ظنوا أنه دليل على عدم الرسالة، ولا شيء منه يصلح أن يكون شبهة لذي مسكة من امره، فضلاً عن أن يكون دليلاً :﴿وقالوا﴾ أي مستفهمين تهكماً بوصفه، قادحين فيه بفعله، قول من هو على ثقة من أن
٢٩٧
وصف الرسالة ينافيه :﴿مال هذا﴾ والإشارة على هذا الوجه تفهم الاستهانة والتصغير ؛ ثم أظهروا السخرية بقولهم :﴿الرسول﴾ أي الذي يزعم أنه انفرد عن بقية البشر في هذا الزمان بهذا الوصف العالي ﴿يأكل الطعام﴾ أي مثل ما نأكل ﴿ويمشي في الأسواق﴾ أي التي هي مطالب الدنيا، كما نمشي.