ولما كان في هذا الكلام معنى الشكاية وشدة التحرق، وعظيم التحزن كما يشير إليه إثبات يا التي للبعد، على خلاف ما جرت به العادة في نداء الخواص الذين هو أخصهم، والاستفهام عن سبب هجرانهم مع ما لهم إليه من الدواعي، كان كأنه قيل : ذلك بأن من فعله عاداك حسداً لك، وعطف عليه :﴿وكذلك﴾ أي ومثل ما فعلنا من هذا الفعل العظيم وأنت أعظم الخلق لدنيا ﴿جعلنا﴾ بما لنا من العظمة ﴿لكل نبي﴾ أي من الأنبياء قبلك، رفعة لدرجاتهم ﴿عدواً من المجرمين﴾ الذين طبعناهم على الشغف بقطع ما يقتضي الوصل فأضللناهم بذلك إهانة لهم فاصبر كما صبروا فإني سأهدي بك من شئت، وأنصرك على غيرهم، وأكرم قومك من عذاب الاستئصال تشريفاً لك.
ولما كان موطناً تعلق فيه النفوس متشوقة إلى الهداية بعد هذا الطبع، والنصرة بعد ذلك الجعل، كان كأنه قيل : لا تحزن فلنجعلن لك ولياً ممن نهديه للإيمان، ولننصرنهم على عدوهم كما فعلنا بمن قبلك، بل أعظم حتى نقضي أممهم من ذلك العجب، ولا يسعهم إلا الخضوع لكم والدخول في ظلال عزكم، ولما كان ذلك - لكثرة المعادين - أمراً يحق له الاستبعاد، قال عاطفاً على ما تقديره ؛ ثم نصر إخوانك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على من جعلهم أعداءهم ربُّك الذي أرسلهم :﴿وكفى بربك﴾ أي المحسن إليك ﴿هادياً﴾ يهدي بك من قضى بسعادته ﴿ونصيراً*﴾ ينصرك على من حكم بشقاوته.
ولما ذكر سبحانه شكايته من هجرانهم للقرآن، وقرر عداوتهم له ونصرته عليهم، أتبع بما يدل عليه، فقال عطفاً على ما مضى من الأشباه في الشبه، وأظهر موضع
٣١٤
الإضمار تنبيهاً على الوصف الذي حملهم على هذا القول :﴿وقال الذين كفروا﴾ أي غطوا عدواة وحسداً ما تشهد عقولهم بصحته من أ، القرآن كلام لإعجازه لهم متفرقاً، فضلاً عن كونه مجتمعاً، وغطوا ما وضح لهم من آثاره الظاهرة الشاهد بوحدانيته، وغير ذلك من صفاته العلية :﴿لو لا﴾ أي هلا.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣١٤


الصفحة التالية
Icon