هوى إلا إلهه، وهو إذا فعل ذلك فقد سلب نفسه الهوى فلم يعمل به إلا فيما وافق أمر إلهه ومما يوضح لك انعكاس المعنى بالتقديم والتأخير أنك لو قلت : فلان اتخذ عبده أباه، لكان معناه أنه عظم العبد، ولو قيل : إنه اتخذ اباه عبده، لكان معناه أنه أهان الأب، وسواء في ذلك إتيانك به هكذا على وزان ما في القرآ، أو نكرت أحدهما، فإنك لا تجد ذوقك فيه يختلف في أنه إذا قدم الحقير شرفه، وإذا قدم الشريف حقره، وكذا لو قلت : إتخذ إصطبله مسجداً أو صديقه اباً أو عكست، ولو كان التقديم بمجرد العناية من غير اختلاف في الدلالة قدم الجاثية الهوى، فإن السياق والسباق له، وحاصل المعنى أنه اضمحل وصف الإله، ولم يبق إلا الهوى، فلو قدم الهوى لكان المعنى أنه زال وغلبت عليه صفة الإله، ولم يكن ينظر إلا إليه، ولا حكم إلا له، كما في الطين بالنسبة إلى الخزف سواء - والله أعلم.
ولما كان لا يقدر على صرف الهوى إلا الله، تسبب عن شدة حرصه على هداهم قوله :﴿أفأنت تكون﴾ ولما كان مراده ﷺ حرصاً عليهم ورحمة لهم ردهم عن الغي ولا بد، عبر أداة الاستعلاء في قوله :﴿عليه وكيلاً*﴾ أي من قبل الله بحيث يلزمك أن ترده عن هواه إلى ما أمر به الله قسراً، لست بوكيل، ولكنك رسول، ليس عليك إلا البلاغ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣١٩
ولما انتفى الرد عن الهوى قسراً بالوكالة، نفى الرد طوعاً بتقبيح الضلالة، فذكر المانع منه بقوله معادلاً لما قبله، منكراً حسبانه، لا كونه هو الحاسب، أو أنكر كونه هو الحاسب، مع ما له من العقل الرزين، والرأي الرصين، ويكون ﴿تحسب﴾ معطوفاً على " تكون " :﴿أم تحسب أن أكثرهم﴾ أي هؤلاء المدعوين ﴿يسمعون﴾ أي سماع من ينزجر ولو كان غير عاقل كالبهائم ﴿أو يعقلون﴾ ما يرون ولو لم يكن لهم سمع حتى يطمع في رجوعهم باختيارهم من غير قسر.


الصفحة التالية
Icon