ولما بين جمود المعترضين على دلائل الصانع، وتناهي جهاهم، وفساد طريقتهم، وكان المراد من العبد في تعرف ذلك أن ينظر في أفعال سيده بعين الحقيقة نظراً تفنى لديه الأغيار، فلا يرى إلا الفاعل المختار، خاطب رأس المخلصين الناظرين هذا النظر، حثاً لأهل وده على مثل ذلك، فقال ذاكراً لأنواع من الدلائل الدالة على وجود الصانع، وإحاطة علمه، وشمول قدرته، مشيراً إلى أن الناظر في هذا الدليل - لوضوحه في الدلالة على الخالق - كالناظر إلى الخالق، معبراً بوصف الإحسان تشويقاً إلى إدامة النظر إليه والإقبال عليه :﴿إلم تر﴾ وأشار إلى عظم المقام وعلو الرتبة بحرف الغاية مع أقرب الخلق منزلة وأعلاهم مقاماً فقال :﴿إلى ربك﴾ أي المحسن إليك، والأصل : إلى فعله ؛ وأشار إلى زيادة التعجب من أمره بجعله في معرض الاستفهام فقال :﴿كيف مد الظل﴾ وهو ظلمة ما منع ملاقاة نور الشمس، قال أبو عبيد : وهو ما تنسخه الشمس وهو بالغداة، والفيء ما نسخ الشمس وهو بعد الزوال.
والظل هنا الليل لأنه ظل الأرض الممدود على قريب من نصف وجهها مدة تحجب نورالشمس بما قابل قرصها من الأرض حتى امتد بساطه، وضرب فسطاطه، كما حجب ظل ضلالهم أنوار عقولهم، وغفلة طباعهم نفوذَ أسماعهم ﴿ولو شاء لجعله﴾ أي الظل ﴿ساكناً﴾ بإدمة الليل لا تذهبه الشمس كما في الجنة لقوله ﴿وظل ممدود﴾ [الواقعة : ٣٠] وإن كان بينهما فرق، ولكنه لم يشأ ذلك بل جعله متحركاً بسق الشمس له.
ولما كان إيجاد النهار بعد إعدامه، وتبيين الظل به غبّ إبهامه، أمراً عظيماً، وإن كان قد هان بكثرة الإلف، أشار بأداة التراخي ومقام العظمة فقال :﴿ثم جعلنا﴾ أي لشيء ظلاًّ، ولولا النور ما عرف الظلام، والأشياء تعرف بأضدادها.
٣٢٣
ولما كانت إزالته شيئاً فشيئاً بعد مدة كذلك من العظمة بمكان.