ولما كان تعنتهم بأن ينزل عليه ملك فيكون معه نذيراً، ربما أثار في النفس طلب إجابتهم إلى مقترحهم حرصاً على هدايتهم، فأومأ أولاً إلى أنه لا فائدة في ذلك بأن مؤازرة هارون لموسى عليهما السلام لم تغن عن القبط شيئاً، وثانياً بأن المدار في وجوب التصديق للنذير الإتيان بما يعجز، وكان ذلك موجوداً في آيات القرآن، المصرفة في كل زمان ومكان بكل بيان، فكانت كل آية منه قائمة مقام نذير، قال مشيراً إلى أنه إنما ترك ذلك لحكم يعلمها :﴿ولو شئنا لبعثنا﴾ أي بما لنا من العظمة ونفوذ الكلمة ﴿في كل قرية نذيراً*﴾ أي من البشر أو الملائكة أو غيرهم من عبادنا، كما قسمنا المطر لأن الملك - كما قدمنا أول السورة - كله لنا، ليس لنا شريك يمنع من ذلك بما له من الحق، ولا ولد يمنع بما له من الدلة، ولكنا لما في آيات القرآن من الكفاية في ذلك، ولما في انفرادك بالدعوة من الشرف لك - وغير ذلك من الحكمة ﴿فلا تطع الكافرين﴾ فيما قصدوا من التفتير عن الدعاء به، بما يبدونه من المقترحات أو يظهرون لك من المداهنة، أو من القلق من صادع الإنذار، ويخيلون أنك لو أقللت منه رجوا أن يوافقوك ﴿وجاهدهم﴾ أي بالدعاء ﴿به﴾ أي القرآن الذي تقدم التحديث عنه في ﴿ولقد صرفناه﴾ [الفرقان : ٥] بإبلاغ آياته مبشرة كانت أو منذرة، والاحتجاج ببراهينه ﴿جهاداً كبيراً*﴾ جامعاً لكل المجاهدات الظاهرة والباطنة، لأن في ذلك إقبال كثير من الناس إليك واجتماعهم عليك، فيتقوى أمرك، ويعظم خطبك، وتضعف شوكتهم، وتنكسر سورتهم.
ولما ذكر تصريف الفرقان، ونشره في جمسع البلدان، بعد إثارة الرياح ونشر السحابن وخلطالماء بالتراب، لجمع النبات وتفريقه، أتبعه - تذكيراً بالنعمة، وتحذيراً من إحلال النقمة - الحجو بين أنواع الماء الذي لا أعظم امتزاجاً منه، وجمع كل نوع
٣٢٧


الصفحة التالية
Icon