ولما كان المعصى إذا علم بعصيان من يعصيه وهو قادر عليه لم يمهله، أشار إلى أنه على غير ذلك، حاضاً على الرفق، بقوله :﴿الرحمن﴾ أي الذي سبقت رحمته غضبهن وهو يحسن إلى من يكفره، فضلاً عن غيره، فأجدر عباده بالتخلق بهذا الخلق رسله، والحاصل أنه أبدع هذا الكون وأخذ في تدبيره بعموم الرحمة في إحسانه لمن يسمعه يسبّه بالنسبة له إلى الولد، ويكذبه في أنه يعيده كما بدأه، وهو سبحانه قادر على الانتقام منه بخلاف ملوك الدنيا فإنهم لا يرحمون من يعصيهم مع عجزهم.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٣٠
ولما كان العلم لازماً للملك، سبب عن ذلك قوله على طريق التجريد :﴿فاسأل به﴾ أي بسبب سؤالك إياه ﴿خبيراً﴾ عن هذه الأمور وكل أمر تريده ليخبرك بحقيقة أمره ابتداء وحالاً ومآلاً، فلا يضيق صدرك بسبب هؤلاء المدعوين، فإنه ما أرسلك إليهم إلا وهو عالبم بهم، فسيعلي كعبك عليهم، ويحسن لك العاقبة.
ولما ذكر إحسانه إليهم، وإنعامه عليهم، ذكر ما أبدوه من كفرهم في موضع شكرهم فقال :﴿وإذا قيل لهم﴾ أي هؤلاء الذين يتقلبون في نعمه، ويغذوهم بفضله وكرمه، من أيّ قائل كان :﴿اسجدوا﴾ أي اخضعوا بالصلاة وغيرها ﴿للرحمن﴾ الذي لا نعمة لكم إلا منه ﴿قالوا﴾ قول عال متكبر كما تقدم في معنى ﴿ظهيراً﴾ :﴿وما الرحمن﴾ متجاهلين عن معرفته فضلاً عن كفر نعمته معبرين بأداة ما لا يعقل، وقال ابن العربي : إنهم إما عبروا بذلك إشارة إلى جهلهم الصفة، دون الموصوف.
ثم عجبوا من أمره بذلك منكرين عليه، بقولهم :﴿أنسجد لما تأمرنا﴾ فعبروا عنه بعد التجاهل في أمره والإنكار على الداعي إليه أيضاً بأداة ما لا يعقل ﴿زادهم﴾ هذا الأمر الواضح المقتضي للإقبال والسكون شكراً للنعم وطمعاً في الزيادة ﴿نفوراً*﴾ لما عندهم من الحرارة الشيطانية التي تؤزهم أزاً، فلا نفرة توازي هذه النفرة، ولا ذم أبلغ منه.


الصفحة التالية
Icon