ولما أتم سبحانه قصة الب الأعظم الأقرب، أتبعها - دلالة على وصفي العزة والرحمة - قصة الأب الثاني، مقدماً لها على غيرها، لما له من القدم في الزمان، إعلاماً بأن البلاء قديم، ولأنها أدل على صفتي الرحمة والنقمة التي أثر العزة بطول الإملاء لهم على طول مدتهم، ثم تعميم النقمة مع كونهم جميع أهل الأرض فقال :﴿كذبت﴾ بإثبات التاء اختياراً للتأنيث - وأن كان تذكير القوم أشهر - للتنبيه على أن فعلهم أخس الأفعال، أو إلى أنهم مع عتوهم وكثرتهم كانوا عليه سبحانه أهون شيء واضعفه بحيث جعلهم هباء منثوراً وكذا من بعدهم ﴿قوم نوح﴾ وهو أهل الأرض كلهم من الآدميين قبل اختلاف الأمم بتفرق اللغات ﴿المرسلين*﴾ أى بتكذيبهم نوحاً عليه السلام، لأنه أقام الدليل على نبوته بالمعجزة، ومن كذب بمعجزة واحدة فقد كذب الكل لأن الآخر جاء بما جاء به الأول - حكاه عنه البغوي.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٧٢
ولقصد التسلية عبر بالتكذيب في كل قصة ﴿إذ﴾ أي
٣٧٣
حين ﴿قال لهم﴾ لم يتأنوا بطلب دليل، ولا ابتغاء وجه جميل ؛ واشار إلى نسبه فيهم بقوله :﴿أخوهم﴾ زيادة في تسلية هذا النبي الكريم ﴿نوح﴾ وأشار إلى حسن أدبه، واستجلابهم برفقه ولينه، بقوله :﴿إني لكم﴾ أى مع كوني أخاكم يسوءني ما يحملكم على أن تجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية بطاعته بالتوحيد وترك الالتفات إلى غيره ؛ ثم علل أهليته للأمر عليهم بقوله :﴿إني لكم﴾ أى مع كوني أخاكم يسوءني ما يسوءكم ويسرني ما يسركم ﴿رسول﴾ أى من عند خالقكم، فلا مندوحة لي عند إبلاغ ما أمرت به ﴿أمين*﴾ أي لا غش عندي كما تعلمون ذلك مني على طول خبرتكم بي، ولا خيانة في شيء من الأمانة، فلذلك لا بد لي من إبلاغ جميع الرسالة.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٧٢


الصفحة التالية
Icon