ولما أمرهم بالإيفاء نهاهم عن النقص على وجه أعلم فقال :﴿ولا تكونوا﴾ أي كوناً هو كالجبلة، ولعله إشارة إلى ما يعرض من نحو ذلك من الخواطر أو الهيئات التي يغلب الإنسان فيها الطبع ثم يرجع عنها رجوعاً يمحوها، ولذلك قال :﴿من المخسرين*﴾ أي الذين يخسرون - أي ينقصون - أنفسهم أديانها بإخسار الناس دنياهم بنقص الكيل أو غيره من أنواع النقص من كل ما يوجب الغبن، فتكونوا مشهورين بذلك بين من يفعله.
ولما أمر بوفاء الكيل، أتبعه بمثل ذلك في الوزن، ولم يجمعهما لما للتفريق من التعريف بمزيد الاهتمام فقال :﴿وزنوا﴾ أي لأنفسكم وغيركم ﴿بالقسطاس﴾ أى الميزان الأقوم ؛ وأكد معناه بقوله :﴿المستقيم*﴾.
ولما أمر بالوفاء في الوزن، اتبعه نهياً عن تركه عاماً كما فعل في الكيل ليكون آكد فقال :﴿ولا تبخسوا﴾ أي تنقصوا ﴿الناس اشياءهم﴾ أي في كيل أو وزن أو غيرهما نقصاً يكون كالسبخة لا فائدة فيه.
ثم أتبع ذلك بما هو أعم منه فقال :﴿ولا تعثوا﴾ أي تتصرفوا ﴿في الأرض﴾ عن غير تأمل حال كونكم ﴿مفسدين*﴾ أي في المال أو غيره، قاصدين بذلك الإفساد - كما تقدم بيانه في سورة هود عليه السلام.
ولما وعظهم فابلغ في وعظهم بما ختمه بالنهي عن الفساد، خوفهم من سطوات الله تعالى ما أحل بمن هو أعظم منهم فقال :﴿واتقوا الذي خلقكم﴾ أى فإعدامكم أهون شيء عليه، وأشار إلى ضعفهم وقوة من كان قبلهم بقوله :﴿والجبلة﴾ أي الجماعة والأمة ﴿الأولين*﴾ الذين كانوا على خلقه وطبيعة عظيمة كأنها الجبال قوة وصلابة لا
٣٨٧
سيما قوم هود عليه السلام الذين هم عرب مثلكمن وقد بلغت بهم الشدة في أبدانهم، والصلابة في جميع أركانهم، إلى أن قالوا ﴿من أشد منا قوة﴾ [فصلت : ١٥] وقد بلغكم ما أنزل بهم سبحانه من بأسه، لأن العرب أعلم الناس بأخبارهم.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٨٧


الصفحة التالية
Icon