ولما كانت حياة الكافر في غاية الضيق والنكد وإن كان في أصفى رغد، عبر بما يدل على القحط بصيغة القلة وإن كان السياق يدل على أنها للكثرة فقال :﴿سنين ثم جاءهم﴾ أي بعد تلك السنين المتطاولة، والدهور المتواصلة ﴿ما كانوا يوعدون*﴾ أي مما طال إنذارك إياهم بهه وتحذيرك لهم منه على غاية التقريب لهم والتمكين في إسماعهم، أخبرني ﴿ما﴾ أي أيّ شيء ﴿أغنى عنهم﴾ أي فيما أخذهم من العذاب ﴿ما كانوا﴾ أي كوناً هو في غاية المكنة وطول الزمان ﴿يمتعون*﴾ تمتيعاً هو في غاية السهولة عندنا، وصورة بصورة الكائن تنديماً عليه، والمعنى أنه ما أغنى عنهم شيئاً لأن عاقبته الهلاك، وزادهم بعداً من الله وعذابه بزيادة الاثام الموجبة لشديد الانتقام.
ولما كان التقدير : لم يغن عنهم يئاً لأنهم ما أخذوا إلا بعد إنذار المنذرين، لمشافهتك إياهم به، وسماعهم لمثل ذلك عمن مضى فبلهم من الرسل، عطف عليه قوله :﴿وما أهلكنا﴾ أي بعظمتنا، واعلم بالاستغراق بقوله :﴿من قرية﴾ أي من القرى السالفة، بعذاب الاستئصال ﴿إلا لها منذرون*﴾ رسولهم ومن تبعه من أمته ومن سمعوا من الرسل بأخبارهم مع أممهم من قبل، واعراها من الواو لأن الحال لم يقتض التأكيد كما في الحجر، لأن المنذرين مشاهدون.
وإذا تأملت آيات الموضعين ظهر لك ذلك ؛ ثم علل افنذار بقوله :﴿ذكرى﴾ أي تنبيهاً عظيماً على ما فيه من النجاة، وتذكيراً بأشياء يعرفونها بما أدت إليه فطر عقولهم، وقادت إليه بصائر قلوبهم، وجعل المنذرين نفس الذكرى كما قال تعالى ﴿قد أنزل الله إليكم ذكراً رسولاً﴾ [الطلاق : ١٠] وذلك إشارة إلى إمعانهم في التذكير حتى صاروا إياه.
ولما كان التقدير : فما أهلكنا قرية منها إلا بالحق، عطف عليه قوله :﴿وما كنا﴾ أو الواو للحال من نون ﴿أهلكنا﴾ ﴿ظالمين*﴾ أي في إهلاك شيء منها لأنهم كفروا نعمتنا، وعبدوا غيرنا، بعد الإعذار إليهم، ومتابعة الحجج، ومواصلة الوعيد.


الصفحة التالية
Icon