ولما قدم - كما هو دأب الصالحين - الشكر، علم أنه يفعل في العرش ما لأجله أحضره، تشوفت النفس إليه فأجيبت بقوله :﴿قال﴾ أي سليمان عليه السلام :﴿نكروا لها عرشها﴾ أي بتغيير بعض معالمه وهيئته اختباراً بعقلها كما اختبرنا هي بالوصفاء والوصائف والدرة وغير ذلك، وإليه الإشارة بقوله :﴿ننظر أتهتدي﴾ أي إلى معرفته فيكون ذلك سبباً لهديتها في الدين ﴿أم تكون من الذين﴾ شأنهم أنهم ﴿لا يهتدون*﴾ أي بل هم في غاية الغباوة، لا يتجدد لهم اهتداء، بل لو هدوا لوقفوا عند الشيه، وجادلوا بالباطل وما حلوا، وأشار إلى سرعة مجيئها إشارة إلى خضوعها بالتعبير بالفاء في قوله :﴿فلما جاءت﴾ وكان مجيئها - على ما قيل - في اثنى عشر ألف قيل من وجوه اليمن، تحت يد كل قيل ألوف كثيرة، وكانت قد وضعت عرشها داخل بيت منيع، ووكلت به حرساً أشداء ﴿قيل﴾ أي لها وقد رأت عرشها بعد تنكيره بتقليب نصبه وتغييره، من قائل لا يقدر على السكوت عن جوابه لما نالها من الهيبة وخالطها من الرعب منعظيم ما رت، فقرعها بكلمة تشمل على أربع كلمات : هاء التنبيه، وكاف التشبيه، واسم الإشارة، مصدرة بهمزة الاستفهام، أي تنبهي ﴿أهكذا﴾ أمثل ذا العرش ﴿عرشك قالت﴾ عادلة عن حق الجواب من " نعم " أو " لا " إشارة إلى أنها غلب على ظنها أنه هو بعينه كما قالوا في " كأن زيداً قائم " :﴿كأنه هو﴾ وذلك يدل على ثبات كبير، وفكر ثاقب، ونظر ثابت، وطبع منقاد، لتجويز المعجزات والإذعان لها مع دهشة القدوم، واشتغال الفكر بما دهمها من هيبته وعظيم أمره، فعلم سليمان عليه السلام رجاحة عقلها وبطلان ما قال الشياطين من نقصه خوفاً من أن يتزوجها فتفشي عليه أسرار الجن لأن أمها كانت جنية - على ما قيل، وقالوا : إن رجلها كحافر الحمار، وإنها كثيرة الشعر جداً.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٢٧


الصفحة التالية
Icon