ولما انتهى الكلام إلى روح الدين وسر اليقين مما لا يعلمه حق علمه إلا العلماء بالكتب السماوية والأخبار الإلهية، وكان العالم يقدر على إيراد الشكوك وترويج الشبه، فربما اضل بالشبهة الواحدة النيام من الناس، بما له عندهم من القبول، وبما للنفوس من النزوع إلى الأباطيل، وبما للشيطان في ذلك من التزيين، وكان الجدال يورث الإجن، ويفتح أبواب المحن، فيحمل على الضلال، قال تعالى عاطفاً على ﴿اتل﴾ نخاطباً لمن ختم الآية بخاطابهم تنزيهاً لمقامه ﷺ عن المواجهة بمثل ذلك تنبيهاً على أنه لا يصوب همته الشريفة إلى مثل ذلك، لأنه ليس في طبعه المجادلة، والمماراة والمغالبة :﴿ولا تجادولوا أهل الكتاب﴾ أى اليهود والنصارى ظناً منكم أن الجدال ينفع الدين، أو يزيد في اليقين، أو يرد أحداً عن ضلال مبين ﴿إلا بالتي﴾ أي بالمجادلة التي ﴿هي أحسن﴾ أى بتلاوة الوحي الذي امرنا راس العابدين بإدامة تلاوته فقط، وهذا كما تقدم عند قوله تعالى في سبحان ﴿وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن﴾ [الإسراء : ٥٣].
٥٦٤
ولما كان كل من جادل منهم في القرآن ظالماً، كان من الواضح أن المراد بمن استثنى في قوله تعالى :﴿إلا الذين ظلموا منهم﴾ أي تجاوزوا في الظلم بنفي صحة القرآن وإنكار إعجازه مثلاً وأن يكون على أساليب الكتب المتقدمة، أو مصدقاً لشيء منها، أو بقولهم ﴿ما أنزل الله على بشر من شيء﴾ [الأنعام : ٩١] ونحو هذا من افترائهم، فإن هؤلاء يباح جدالهم ولو أدى إلى جلادهم بالسيف، فإن الدين يعلو ولا يعلى عليه.
ولما نهى عن موجب الخلاف، أمر بالاستعطاف، فقال :﴿وقولوا آمنا﴾ أى أوقعنا الإيمان ﴿بالذي أنزل إلينا﴾ أي من هذا الكتاب المعجز ﴿وأنزل إليكم﴾ من كتبكم، يعني في أن أصله حق وإن كان قد نسخ منه ما نسخ، وما حدثوكم به من شيء ليس عندكم ما يصدقه ولا ما يكذبه فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإن هذا أدعى إلى الإنصاف، وأنفى للخلاف.