ولما كانت الهجرة شديدة المرارة لأنها مرت في المعنى من حييث كونها مفارقة المألوف المحبوب من العشير والبلد والمال، وكان في الموت ذلك كله بزيادة، قال مؤكداً بذلك مذكراً به مرهباً من ترك الهجرة :﴿كل نفس ذائقة الموت﴾ أي مفارقة كل ما ألفت حتى بدناً طالما لابسته، وآنسها وآنسته، فإن أطاعت ربها أنجت نفسها ولم تنقصها الطاعة في الأجل شيئاً، وإلا أوبقت نفسها ولم تزدها المعصية في الأجل شيئاً، فإذا قدر الإنسان أنه مات سهلت عليه الهجرة، فإنه إن لم يفارق بعض مألوفه بها فارق كل مألوفه بالموت، وما ذكر الموت في عسير إلا يسرهن ولا يسير إلا عسره وكدره.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥٧١
ولما هوّن أمر الهجرة، حذر من رضي في دينه بنوع نقص لشيء من الأشياء حثاً على الاستعداد بغاية الجهد في التزود للمعاد فقال :﴿ثم إلينا﴾ على عظمتنا، لا إلى غيرنا ﴿ترجعون*﴾ على أيسر وجه، فيجازي كلاً منكم بما عمل.
ولما كان التقدير : فالذين آمنوا فلبسوا إيمانهم بنوع نقص لننقصهم في جزائهم،
٥٧٢
والذين كفروا لنركسنهم في جهنم دركات تخت دركات فبئس مثوى الظالمين، ولكنه لما تقدم ذكر العذاب قريباً، وكان القصد هنا الترغيب في الإيمان كيفما كان، طواه ودل عليه بأن عطف عليه قوله :﴿والذين آمنوا وعملوا﴾ أي تصديقاً لإيمانهم ﴿الصالحات﴾ أي كلها.
ولما كان الكفار ينكرون البعث، فكيف ما بعده، أكد قوله :﴿لنبوئنهم﴾ أي لنسكننهم في مكان هو جدير بأن يرجع إليه من حسنه وطيبه من خرج منه لبعض أغراضه، وهو معنى ﴿من الجنة غرقاً﴾ أي بيوتاً عالية تحتها قاعات واسعة بهية عالية، وقريب من هذا المعنى قراءةة حمزة والكسائي بالثاء المثلثة من ثوى بالمكان - إذا أقام به.


الصفحة التالية
Icon