ولما كانوا قد غلطوا في الدارين كلتيهما فأنزلوا كل واحدة منهما غير منزلتها، فعدوا الدنيا وجودجاً دائماً على هذا الحالة والآخرة عدماً، لا وجود لها بوجه، قال :﴿لو كانوا﴾ أي كوناً هو كالجبلة ﴿يعلمون*﴾ أي لهم علم ما لم يغلطوا في واحدة منهما فلم يركبوا مع إيثارهم للحياة وشدة نفرتهم من الموت، لا عتقادهم أن لا قيام بعده إلى الدنيا، مع أن أصلها عدم الحياة الذي هو الموتان.
ولما ختم هذه الآية بما أفهم أنهم لا يعلمون، والتي قبلا بأن أكثرهم لا يعقلون، سبب عن ذلك قوله :﴿فإذا﴾ أي فتسبب عن عدم عقلهم المستلزم لعدم علمهم أنهم إذا ﴿ركبوا﴾ أي البحر ﴿في الفلك﴾ أى السفن ﴿دعوا الله﴾ أي الملك الأعلى المحيط بكل
٥٧٧
شيء إذا أصابتهم مصيبة خافوا منها الهلاك ﴿مخلصين﴾ بالتوحيد ﴿له الدين*﴾ بالإعراض عن شركائهم بالقلب واللسان، لما هم له محققون أنه لا منجى عند تلك الشدائد غيره ﴿فلما نجّاهم﴾ أي الله سبحانه، موصلاً لهم ﴿لى البر إذا هم﴾ أي حين الوصول إلى البر ﴿يشركون*﴾ فصح أنهم لا يعلمون، لأنهم لا يعقلون، حيث يقرون بعجز آلهتهم ويشركونها معه، ففي ذلك أعظم التهكم بهمح قال البغوي : قال عكرمة : كانوا إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام، فإذا اشتدت بهم الريح ألقوها في البحر وقالوا يا رب! يا رب.
وقال الرازي في اللوامع : وهذا دليل على أن معرفة الرب في فطرة كل إنسان، وأنهم إن غفلوا في السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء - انتهى.
فعلم أن الاشتغال بالدنيا هو الصادّ عن كل خير وأن الانقطاع عنها معين للفطرة الأولى المستقيمة، ولهذا نجد الفقراء اقرب إلى كل خير.


الصفحة التالية
Icon