جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥٨٢
ولما نزل هذا على قوم أكثرهم له منكر، أكده سبحانه بما يقوي قلوب أصفيائه بتبيين المراد، ويرد ألسنة أعدائه عن كثير من الناد، ويعرفهم أنه كما صدق في هذا الوعد لأجل تفريح أوليائه فهو يصدق في وعد الآخرة ليحكم بالعدل، ويأخذ لهم حقهم ممن عاداهم، ويفضل عليهم بعد ذلك بما يريد، فقال :﴿وعد الله﴾ أي الذي له جميع صفاتالكمال، وهو متعال عن كل شائبة نقص، فلذلك ﴿لا يخلف﴾ وأعاد ذكر الجلالة تنبيهاً على عظم الأمر فقال :﴿الله﴾ أي الذي له الأمر كله.
ولما كان لا يخلف شيئاً من الوعد، لا هذا الذي في أمر الروم ولا غيره، أظهر فقال :﴿وعده﴾ كما يعلم ذلك أولياؤه ﴿ولكن أكثر الناس﴾ وهو أهل الاضطراب والنوس ﴿لا يعلمون*﴾ أي ليس لهم علم أصلاً، ولذلك لا نظر لهم يؤدي إلى أنه وعد وأنه لا بد من وقوع ما وعد به في الحال التي ذكرا لأنه قادر وحكيم.
ولما كان من المشاهدة أن لهم عقولاً راجحة وأفكار صافية، وأنظار صائبة، فكانوا بصدد أن يقولوا : إن علمنا أكبر من علمكم، كان كأنه قيل بياناً لأنه يصح سلب ما ينفع من العلم بتأديته إلى السعادة الباقية، وتنبيهاً على أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا : نعم ﴿يعملون﴾ ولكن ﴿ظاهراً﴾ أي واحداً ﴿من﴾ التقلب في ﴿الحياة الدنيا﴾ وهو ما أدتهم إليه حواسهم وتجاربهم إلى ما يكون سبباً للتمتع بزخرفها والتنعم بملاذها، قال الحسن " إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه ولا يخطىء وهو لا يحسن يصلي - انتهى.
وأمثال هذا لهم كثير، وهو وإن ساووا البهائم في إدراكها ما ينفعها فتستجلبه بضروب من الحيل، وما يضرها فتدفعه بأنواع من الخداع، وأما علم باطنها وهو أنها مجاز إلى الآخرة يتزود منها بالطاعة، فهو ممدوح منبه عليه بوصفها بما يفهم الأخرى.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٦٠١