ولما كان انتكاسهم بعد هذا الأسباب المسعدة بعيداً، أشار إليه بأداة التراخي، أو هي إشارة إلى تطاول دعار الرسل لهم احتمالهم إياهم فقال :﴿ثم كان﴾ أي كوناً تعذر الانفكاك عنه، وهو في غاية الهول كما اشار غليه تذكير الفعل ﴿عاقبة﴾ أي آخر أمر ﴿الذين أساءوا﴾ أظهر موضع الإضمار تعميماً ودلالة على السبب ﴿السوأَى﴾ أي الحالة التي هي أسوأ ما يكون، وهي خسارة الأنفس بالدمار في الدنيا والخلود في العذاب في
٦٠٥
الأخرى، جزاء لهم بجنس عملهم، فنهم كما أساؤوا الرسل ساءهم الملك ؛ ثم ذكر العلة بقوله :﴿ن كذبوا﴾ أى لأجل تكذيبهم الرسل، مستهينين ﴿بآيات الله﴾ أي الدلالات المنسوبة إلى الملك الأعلى الذي له الكمال كله الدالة عليه على عظمها بعظمه ﴿وكانوا﴾ أي كوناً كأنه جبلة لهم ﴿بها﴾ مع كونها أبعد شيء عن الهزء ﴿يستهزئون﴾ أي يستمرون على ذلك بتجديده في كل حين مع تعظيمه حتى كان استهزاؤهم بغيرها كأن عدم، كما أنكم أنتم تكذبون بما وقع من الوعد في أمر الروم وتستهزئون به فاحذروا أن يحل بكم ما حل بالأولين، ثم تردون إليه سبحانه فيعذبكم العذاب الأكبر، ويجوز أن يكون هذا بدلاص من " السُّوأَى " أو بياناً لها بمعنى أنهم لما أساؤوا زادتهم إساءتهم عماوة حتى ارتكسوا في العمى فوصلوا إلى التكذيب والاستهزاء الذي هو أقبح الحالات، عكس ما يجازي به المؤمن من أنه يزداد بإيمانه هدى.
ولما كان حاصل ما مضى أنه سبحانه وتعالى قادر على الإعادة كما قدر على الابتداءن وكان للتصريح مع النفس حالة ليست لغيره، قال ذاكراً نتيجة ما مضى ومحصله تصريحاً بالمقصود وتلخيصاً للدليل :﴿الله﴾ أي المحيط علماً وقدرة ﴿يبدؤاْ الخلق﴾ أي بدا منه ما رأيتم وهو يجدد في كل حين ما يريد من ذلك كما تشاهدون ﴿ثم يعيده﴾ بعد ما يبيده، وترك توكيده إشارة إلىأنه غني عنه لأنه من القضايا المسلمة أن من اخترع شيئاً كان لا محالة قادراً على إعادته.


الصفحة التالية
Icon