ولما كان تطاول الإقامة على شيء موجباً للإلف له، والإلف قتال لما يوجب من الإصرار على المألوف لمحبته " وحبك للشيء ويصم " قال جواباً لمن يتوقع الجواب عما أثمرته حالهم :﴿لقد حق القول﴾ أي الكامل في بابه وهو إيجاب العذاب
٢٤٥
بملازمة الغفلة ﴿على أكثرهم فهم﴾ أي بسبب ذلك ﴿لا يؤمنون*﴾ أي بما يلقى إليهم من الإنذار بل يزيدهم عمى استكباراً في الأرض ومكر السيئ.
ولما كان المعنى أنه لا يتجدد منهم إيمان بعد البيان الواضح والحكمة الباهرة، وكان ذلك أمراً عجباً، علله بما يوجبه من تمثيل حالهم تصويراً لعزته سبحانه وباهر عظمته الذي لفت الكلام إليه لإفهامه - وهذا الذي ذكر هو اليوم معنى ومثال وفي الآخرة ذات ظاهر - وأنه ما انفك عنهم أصلاً وما زال، فقال :﴿إنا جعلنا﴾ أي بما لنا من العظمة، وأكده لما لهم من التكذيب ﴿في أعناقهم أغلالاً﴾ أي من الظلمات الضلالات كل عنق غل، وأشار بالظرف إلى أنها من ضيقها لزت اللحم حتى تنثر على الحديد فكاد يغطيه فصار - والعنق فيه - كأنه فيها وهي محيطة به.
ولما كان من المعلوم أن الحديد إذا وضع في العنق أنزله ثقله إلى المنكب، لم يذكر جهة السفل وذكر جهة العلو فقال :﴿فهي﴾ أي الأغلال بعرضها واصلة بسبب هذا الجعل ﴿إلى الأذقان﴾ جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين، فهي لذلك مانهة من مطاطأة الرأس.
ولما كان هذا من رفع الرأس فعل المتكبر، وكان تكبرهم في غير موضعه، بيّن تعالى أنهم ملجؤون إليه فهو ذل في الباطن وإن كان كبراً في الظاهر فقال :﴿فهم﴾ أي بسبب هذا الوصول ﴿مقمحون*﴾ من أقمح الرجل - إذا أقمحه غيره أي جعله قامحاً أي رافعاً رأسه غاضاً بصره لا ينظر إلا ببعض بصره هيئة المتكبر، وأصله من قولهم : قمح البعير - إذا رفع رأسه عند الشرب ولم يشرب الماء، قال في الجمع بين العباب والمحكم : قال بشر بن أبي حازم يصف سفينة، قال أبو حيان : ميتة أحدهم ليدفنها :
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٤٥