ولما كان هذا الجري على نظام لا يختل على مر السنين وتعاقب الأحقاب تكل الأوهام عن استخراجه، وتتحير الأفهام في استنباطه، عظمه بقوله :﴿ذلك﴾ أي الأمر الباهر للعقول ؛ وزاد في عظمه بصيغة التفعيل في قوله :﴿تقدير﴾ وأكد ذلك لافتاً القول عن مطلق مظهر العظمة إلى تخصيصه بصفتي العزة والعلم تعظيماً لهذه الآية تنبيهاً على نوع مغالبة، وهو غالب على كل شيء ﴿العليم*﴾ أي المحيط علماً بكل شيء الذي يدبر الأمر، فيطرد على نظام عجيب ونهج بديع لا يعتريه وهن لا يلحقه يوماً نوع خلل إلى أن يريد سبحانه إبادة هذا الكون فتسكن حركاته وتفنى موجوداته، روى البخاري عن
٢٦٢
أبي ذر رضي الله عنه قال : كنت مع النبي ﷺ في المسجد عند غروب الشمس فقال : يا أبا ذر! أتدري أين تذهب ؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم، قال : فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها : ارجعي من حيث جئت، فذلك قوله تعالى :﴿والشمس تجري لمستقر لها﴾
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٥٩
ولما ذكر آية النهار، أتبعها آية الليل فقال :﴿والقمر﴾ ومعناه في قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وروح عن يعقوب بالرفع : يجري لمستقر له، ونصبه الباقون دلالة على عظمة هذا الجري لسرعته بقطعه في شهر ما تقطعه الشمس في سنة، ولذلك ضعف الفعل المفسر للناصب وأعمله في ضمير القمر ليكون مذكوراً مرتين فيدل على شدة العناية تنبيهاً على تعظيم الفعل فيه، وأعاد مظهر العظمة فقال مستانفاً في قراءة الرفع :﴿قدرناه﴾ أي قسناه قياساً عظيماً أي قسنا لسيره ﴿منازل﴾ ثمانية وعشرين، ثم يستشر ليلتين : عند التمام وليلة للنقصان لا يقدر يوماً أن بدراً يتعداه، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري : يبعد عن الشمس ولا يزال يتباعد حتى يعود بدراً، ثم يدنو فكلما ازداد من الشمس دنوا ازداد في نفسه نقصاناً إلى أن يتلاشى.


الصفحة التالية
Icon