ولما وصلوا إلى هذا الحد من الطغيان، والزور الظاهر والبهتان، تشوف السامع إلى جزائهم فاستأنف الإخبار بذلك مظهراً له في أسلوب الخطاب إيذاناً بتناهي الغضب، فقال في قالب التأكيد نفياً لما يترجمونه من العفو بشفاعة من ادعوا أنهم يقربونهم زلفى، ووعظاً لهم ولأمثالهم في الدنيا فيما ينكرونه حقيقة أو مجازاً :﴿إنكم﴾ أي أيها المخاطبون على وجه التحقير المجرمين ﴿لذائقوا﴾ أي بما كنتم تضيقون أولياء الله ﴿العذاب الأليم*﴾ ولما كان سبحانه الحكم العدل فلا يظلم أحداً مثقال ذرة فلا يزيد في جزائه شيئاً على ما يستحق مع أن له أن يفعل ما يشاء ولا يكون فعله - كيفما كان - إلا عدلاً قال :﴿ما﴾ أي والحال أنكم ما ﴿تجزون﴾ أي جزءاً من الجزاء ﴿إلا ما﴾ أي مثل ما.
ولما كانوا مطبوعين على تلك الخلال السيئة، بين أنها كانت خلقاً لهم لا يقدرون على الانفكاك عنها بالتعبير بأداة الكون فقال :﴿كنتم تعملون*﴾ نفياً لوهم من قد يظن أنهم فعلوا شيئاً بغير تقديره سبحانه.
ولما كان في المخاطبين بهذا من علم الله أنه سيؤمن، واستثنى من واو " ذائقوا " قوله مرغباً لهم في الإيمان مشيراً إلى أنهم لا يحملهم على الثبات على ما هم عليه من الضلال إلا غش الضمائر بالرياء وغيره، فهو استثناء متصل بهذا الاعتبار الدقيق :﴿إلا عباد الله﴾ فرغبهم بوصف العبودية الذي لا أعز منه، وأضافهم زيادة في الاستعطاف إلى الاسم الأعظم الدال على جميع صفات الكمال،
٣٠٩
وزاد رغباً بالوصف الذي لا وصف أجلّ منه فقال :﴿المخلصين*﴾.
ولما خلصهم منهم، ذكر ما لهم فقال معظماً لهم بأداة البعد :﴿أولئك﴾ أي العالو القدر بما صفوا أنفسهم عن أكدار الأهوية ﴿لهم رزق معلوم﴾ أي يعلمون غائبه وكائنه وآتيه وطعمه ونفعه وقدره وغبّه وجميع ما يمكن علمه من أموره، وليسوا مثل ما هم عليه في هذه الدار من كدر الأخطار ﴿لا تدري نفس ماذا تكسب غداً﴾ لأن النفس إلى المعلوم أسكن، وبالأنس إليه أمكن.


الصفحة التالية
Icon