أي المكرهين على حضور هذا الموطن الضنك الذي أنت فيه، فيالله ما أعظم إحسان هذه الآية في التنفير من العشرة لقرناء السوء لأنها شديدة الخطر قبيحة الأثر، ولقد أبان نظره هذا عن أنه لم يكن أعلى لذة مما كان فيه فليس بأدنى منه، فإنه لا شيء ألذ من رؤية العدو الماكر الذي طالما أحرق الأكباد وشوش الأفكار، في مثل دلك من الإنكار، وعظائم الأكدار، من غمرات النار.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣١٣
ولما رأى ذاك فيما هو فيه من الجحيم، ورأى نفسه فيما هي فيه من النعيم، ما ملك نفسه أن قال كما يعرض لمن يكون في شدة فيأتيه الفرج فجأة فيصير كأنه في منام أو أضغاث أحلان، لا يصدق ما صار إليه سروراً :﴿أفما﴾ أي أنحن يا إخواني منعمون مخلدون فيتسبب عن ذلك أنا ما ﴿نحن بميتين*﴾ أي بعد حالتنا هذه، وأكده لأن مثله لأجل نفاسته لا يكاد يصدق، ثم أعرق في العموم بما هو معياره فقال :﴿إلا موتتنا الأولى﴾ أي التي كانت في الدنيا.
ولما ذكر نعمة الخلاص من الموت، ذكر نعمة الإنقاذ من الأكدار فقال :﴿وما﴾ ﴿نحن﴾ وأكد النفي فقال :﴿بمعذبين*﴾ ولما تذكر هذا فاستفزه السرور، وازدهته الغبطة والحبور، لم يملك نفسه أن قال في أسلوب التأكيد لما له في ذلك من النشاط لما له من خرق العادة منبهاً على عظمته لتعظيم الغبطة :﴿إن هذا﴾ أي الملك الذي نحن فيه ﴿لهو﴾ أي وحده ﴿الفوز العظيم*﴾ أي الذي لا شيء يعدله.
ولما دل هذا السياق على عظيم ما نالوه، زاد في تعظيمه بقوله :﴿لمثل هذا﴾ أي الجزاء ﴿فليعمل العاملون*﴾ أي لينالوه فإنهم يغتنون غنى لا فقر بعده بخلاف ما يتنافسون فيه ويتدالجون عليه من أمور الدنيا، فإنه مع سرعة زواله منغض بكدره وملاله.


الصفحة التالية
Icon