ولما ذكر استبعادهم، وأتبعه عنادهم، وكان إنكارهم إنما هو بسبب اختلاط الأجزاء بالتراب بعد إنقلابها تراباً، فكان عندهم من المحال تمييزها من بقية التراب.
دل على أن ذلك عليه هين بأن نبهمم على ما هو مقرّون به مما هو مثل ذلك بل أدق.
فقال مستأنفاً :﴿قل﴾ أي جواباً لهم عن شبهتهم :﴿يتوافكم﴾ أي يقبض أوراحكم كاملة من أجسادكم بعد أن كانت مختلطة بجميع أجزاء البلدان، لا تميز لأحدهما عن الآخر بوجه تعرفونه بنوع حيلة ﴿ملك الموت﴾ ثم أشار إلى أن فعله بقدرته، وأن ذلك عليه في غاية السهولة، ببناء الفعل لما لم يسم فاعله فقال :﴿الذي وكل بكم﴾ أي وكله الخالق لكم بذلك، وهو عبد من عبيده، ففعل ما أمر به، فإذا البدن ملقى لا روح في شيء منه وهو على حاله كاملاً لا نقص في شيء منه يدعي الخلل بسببه، فإذا كان هذا فعل عبد من عبيده صرفه في ذلك فقام به على ما ترونه مع أن ممازجة الروح للبدن أشد من ممازجة تراب البدن لبقية التراب لأنه ربما يستدل بعض الحذاق على بعض ذلك بنوع دليل من شم ونحوه، فكيف يستبعد شيء من الأشياء على رب العالمين، ومدير الخلائق أجمعين ؟ فما قان هذا البرهان القطعي الظاهر مع دقته لكل أحد على قدرته التامة على تمييز ترابهم من تراب الأرض، وتمييز بعض تربهم من بعض، وتمييز تراب كل جزء من اجزائهم جل أو دق عن بعض.
علم أن التقدير : ثم يعيدكم خلقاً جديداً كما كنتم أول مرة، فحذفه كما هو عادة القرآن في حذف كل ما دل عليه السياق ولم يدع داع إلى ذكره
٥٤
فعطف عليه قوله :﴿ثم إلى ربكم﴾ أي الذي ابتدأ خلقكم وتربيتكم وأحسن إليكم غاية الإحسان ابتداء، لا إلى غيره، بعد إعادتكم ﴿ترجعون﴾ بأن يبعثكم كنفس واحدة فإذا أنتم بين يديه، فيتم إحسانه وربويته بأن يجازي كلاًّ بما فعل، كما هو دأب الملوك مع عبيدهم، لا يدع أحد منهم الظالم من عبيده مهملاً.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٥٤


الصفحة التالية
Icon