ولما تقرر دليل البعث بما لا خفاء فيه ولا لبس، شرع يقص بعض أحوالهم عند ذلك، فقال عادلاً عن خطابهم استهانة بهم وإيذاناً بالغضب، وخطاباً للنبي ﷺ تسلية له، أو لكل من يصح خطابه، عاطفاً على ما تقديره : فلو رأيتهم وقد بعثرت القبور، وحصل ما في الصدور، وهناك أمور أيّ أمور، موقعاً المضارع في حيز ما من شأنه الدخول على الماضي، لأنه لتحقق وقوعه كأن قد كان، واختير التعبير به لترويح النفس بترقب رؤيته حال سماعه، تعجيلاً للسرور بترقب المحذور لأهل الشرور :﴿ولو ترى﴾ أي تكون أيها الرائي من أهل الرؤية لترى حال المجرمين ﴿إذ المجرمون﴾ أي القاطعون لما أمر الله به أن يوصل بعد أن وقفوا بين يدي ربهم ﴿ناكسوا رؤوسهم﴾ أي مطأطئوها خجلاً وخوفاً وخزياً وذلاً في محل المناقشة ﴿عند ربهم﴾ المحسن إليهم المتوحد بتدبيرهم، قائلين بغاية الذل والرقة :﴿ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا ﴿أبصرنا﴾ ما كما نكذب به ﴿وسمعنا﴾ أي منك ومن ملائكتك ومن أصوات النيران وغير ذلك ما كنا نستبعده، فصرنا على غاية العلم بتمام قدرتك وصدق وعودك ﴿فارجعنا﴾ بما لك من هذه الصفة المقتضية للإحستان، إلى دار الأعمال ﴿نعمل صالحاً﴾ ثم حققوا هذا الوعد بقولهم على سبيل التعليل مؤكدين لأن حالهم كان حال الشاك الذي يتوقف المخاطب في إيقانه :﴿إنا مؤقنون*﴾ أي ثابت لرأيت أمراً لا يحتمله من هوله وعظمه عقل، ولا يحيط به وصف.
ولما ذكر لهم جواباً، علم أنه لهوانهم، لأنه ما جرأهم على العصيان إلا وصفة الإحسان، فلا يصلح لهم إلا الخزي والهوان، ولأن الإيمان لا يصح إلا بالغيب قبل العيان.


الصفحة التالية
Icon