ولما كان ربما وقع في وهم أن ضلااهم مع الإمعان في البيان، لعجز عن هدايتهم أو توان، قال عاطفاً على ما تقديره : إني لا أردكم لأني لم أضلكم في الدنيا للعجز عن هدايتكم فيها، بل لأني لم أرد إسعادكم، ولو شءت لهديتكم، صارفاً القول إلى مظهر العظمة لاقتضاء المقام لها :﴿ولو شئنا﴾ أي بما لنا من العظمة التي تأبى أن يكون لغيرنا شيء يستقل به أو يكون في ملكنا ما لا نريد ﴿لأتينا كل نفس﴾ أي مكلفة لأن الكلام
٥٥
فيها ﴿هداها﴾ لأي جعلنا هدايتها ورشدها وتوفيقها للإيمان وجميع ما يتبعه من صالح الأعمال في يدها متمكنة منها.
ولما استوفى الأمر حده من العظمة، لفت الكلام إلى الإفراد، دفعاً للتعنت وتحقيقاً لأن المراد بالأول العظمة فقال :﴿ولكن﴾ أي لم أشأ ذلك لأنه ﴿حق القول مني﴾ وأنا من لا يخلف الميعاد، لأن الإخلاف إما لعجز أو نسيان أو حاجة ولا شيء من ذلك يليق بجنابي، أو يحل بساحتي، وأكد لأجل إنكارهم فقال مقسماً :﴿لأملان جهنم﴾ التي هي محل إهانتي وتجهم اعدائي بما تهجموا أوليائي ﴿من الجنة﴾ أي الجن طائفة إبليس، وكأنه أنثهم تحقيراً لهم عند من يستعظم أمرهم لما دعا إلى تحقيرهم من مقام الغضب وبدأ بهم لاستعظامهم لهم ولأنهم الذين أضلوهم ﴿والناس أجمعين*﴾ حيث قلت لإبليس :﴿لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين﴾ [ص : ٨٥] فلذلك شئت كفر الكافر وعصيان العاصي بعد أن جعلت لهم اختياراً، وغيبت العاقبة عنهم، فصار الكسب ينسب إليهم ظاهراً، والخلق في الحقيقة والمشيئة لي.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٥٤


الصفحة التالية
Icon