واما كانت العبادة تقطع عن التوسع في الدنيا، فربما دعت نفس العابد إلى التسمك بما في يده خوفاً من نقص العبادة عن الحاجة لتشوش الفكر والحركة لطلب الرزق، حث على الإنفاق منه إعتماداً على الخلاق والرازق الذي ضمن الخلف ليكونوا بما ضمن لهم أوثق منهم بما عندهم، وإيذاناً بأن الصلاة سبب للبركة في الرزق ﴿وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك﴾ [طه : ١٣٢]، فقال لفتاً إلى مظهر العظمة تنبيهاً على أن الرزق منه وحده :﴿ومما رزقناهم﴾ أي بعظمتنا، لا حول منهم ولا قوة ﴿ينفقون*﴾ من غير إسراف ولا تقتير في جميع وجوه القرب التي شرعناها لهم.
ولما ذكر جزاء المستكبرين، فتشوفت النفس إلى جزاء المتواضعين، أشار إلى جزائهم بفاء السبب، إشارة إلى أنه هو الذي وفقهم لهذه الأعمال برحمته، وجعلها سبباً إلى دخول جنته، ولو شاء لكان غير ذلك فقال :﴿فلا تعلم نفس﴾ أي من جميع النفوس مقربة ولا غيرها ﴿ما أخفي لهم﴾ أي لهؤلاء المتذكرين من العالم بمفاتيح الغيوب وخزائنها كما كانوا يخفون أعمالهم لاصلاة في جوف الليل وغير ذلك ولا يراؤون بها، ولعله بأن الله تعالى في قراءة الجماعة تعظيماً له بذهاب الفكر في المخفي كل مذهب، أو للعلم بأن الله تعالى الذي أخفوا نوافل أعمالهم لأجله، وسكن حمزة الياء على أنه للمتكلم سبحانه لفتاً لأسلوب العظمة إلى أسلوب الملاطفة، والسر مناسبته لحل الأعمال.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٥٦
ولما كانت العين لا تقر فتهجع إلا عند الأمن والسرور قال :﴿من قرة أعين﴾ أي من شيء نفيس سارّ تقر به أعينهم لأجل ما اقلعوها عن قرارها بالنوم ؛ ثم صرح بما أفهمته فاء السبب فقال :﴿جزاء﴾ أي أخفاها لهم لجزائهم ﴿بما كانوا﴾ أي بما هو لهم كالجبلة ﴿يعملون*﴾ روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ :
٥٨


الصفحة التالية
Icon