ولما أخبر سبحانه أنه يعرفهم لنبيه ﷺ، أتبعه الإخبار بأنه يعرفهم لكافة المؤمنين أيضاً، فقال مؤكداً لأجل ظنهم أن عندهم من الملكة الشديدة والعقل الرصين ما يخفون به أمورهم :﴿ولنبلونكم﴾ أي نعاملكم معاملة المبتلى بأن تخالطكم بما لنا من صفات العظمة بالأوامر الشديدة على النفوس النواهي الكريهة إليها والمصاب، خلطة مميلة محيلة، وهكذا التقدير في الفعلين الآتيين في قراءة الجماعة بالنون جرياً على الأسلوب الأول، وفي قراءة أبي بكر عن عاصم بالياء الضمير لله تعالى الذي هو محيط بصفات العظمة الراجعة إلى القهر وغيرها من صفات الإكرام الآئلة إلى الإنعام، فهو في غاية الموافقة لقراءة النون ﴿حتى نعلم﴾ بالابتلاء علماً شهودياً يشهده غيرنا مطابقاً لما كنا تعلمه علماً غيبياً فنستخرج من سرائركم ما كوناه فيكم وجبلناكم عليه مما لا يعلمه أحد
١٧٥
منكم بل ولا تعلمونه أنتم حق علمه ﴿المجاهدين منكم﴾ في القتال وفي سائر الأعمال والشدائد والأهوال امتثالاً للأمر بذلك.
ولما كان عماد الجهاد الصبر على المكاره قال تأكيداً لأمره :﴿والصابرين﴾ أي على شدائد الجهاد وغيره من الأنكاد، قال القشيري : فبالابتلاء والامتحان تتبين جواهر الرجال، فيظهر المخلص ويتضح المماذق وينكشف المنافق.
ولما نصب معياراً للعلم بالذوات، أتبعه مسباراً للمعرفة للأخيار، فقال عاطفاً على " نعلم " في رواية الجماعة وعلى " نبلو " في الرواية عن يعقوب بإسكان الواو :﴿ونبلوا أخباركم﴾ أي نخالطها بأن نسلط عليها من يحرفها فيجعل حسنها قبيحاً وقبيحاً مليحاً ليظهر للناس العامل لله والعامل للشيطان، فإن العامل لله إذا سمى قبيحه باسم الحسن علم أن ذلك إحسان من الله إليه فيستحيي منه ويرجع إليه، وإذا سمى حسنه باسم القبيح واشتهر به علم أن ذلك لطف من الله به كيلا يدركه العجب أو يهاجمه الرياء فيزيد في إحسانه، والعامل للشيطان يزداد في القبائح.


الصفحة التالية
Icon