ولما كان ربما ظن شقي من أخذ الأمور بالتدريج شيئاً في القدرة قال :﴿ولله﴾ أي الذي أنزل السكينة عليهم ليكون نصرهم في هذه العمرة بالقوة ثم يكون عن قريب بالفعل والحال أنه له وحده ﴿جند السماوات والأرض﴾ أي جميعها، ومنها السكينة، يدبرهم بلطيف صنعه وعجيب تدبيره، فلو شاء لنصر المؤمنين الآن بالفعل، ودمر على أعدائهم بجنود أو بغير سبب، لكنه فعل ذلك ليكون النصر بكم، فيعلوا أمركم ويعظم أجركم، ويظهر الصادق في نصره من الكاذبن، فإن الدار دار البلاء، وبناء المسببات على الأسباب على وجه الأغلب فيه الحكمة، لا القهر وظهور الكلمة، فاسمه الباطن هو الظاهر في هذه الدار، فلذلك ترى المسببات مستورات بأسبابها، فلا يعلم الحقائق إلا البصراء ألا ترى أنه ﷺ لما نزلت عليه هذه السورة فتلاها عليه قال بعض الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين : أي رسول الله وفتح هو ؟ قال بعضهم : لقد صدونا عن البيت وصدوا هدينا، فقال رسول الله ﷺ :"بئس الكلام هذا، بل هو أعظم الفتح، أما رضيتم أن تطرقوهم في بلادهم فيدفعوكم عنها بالراح ويسألوكم التضير ويرغبون إلكم في الأمن وقد رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين، فهو أعظم الفتوح، أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم، أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون"، فقال المسلمون : صدق الله ورسوله فهو أعظم الفتوحز والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه لأنت أعلم بالله وأمره منا.
وأنزل الله تأكيدا لأمر الرؤيا لمن أشكل عليهم حالها ﴿لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام﴾ الآية، فهذه الأشياء كلها كما ترى راجعة إلى الخفاء بالتعجب في أستار الأسباب، فلا يبصرها إلا أرباب التدقيق في النظر في حكمة الله سبحانه.