ولما كان قد تقدم في إشارة الخطاب الامتنان بخلق الإنسان، ثم ذكر أصول النعم عليه على وجه بديع الشأن، إلى أن ذكر غذاء روحه : الريحان، أبتع ذلك تفصيلاً لما أجمل فقال :﴿خلق الإنسان﴾ أي أصل هذا النوع الذي هو من جملة الأنام الذي خلقنا الريحان لهم والغالب عليه الأنس بنفسه وبما ألفه.
ولما كان أغلب عناصره التراب وإن كان من العناصر الأربعة، عبر عن إشارة به إلى مطابقة اسمه - بما فيه مما يقتضي الأنس الذي حاصله الثبات على حالة واحدة - لمسماه الذي أغلبه التراب لنقله وثباته ما لم يحركه محرك، وعبر عن ذلك بما هو في
٣٧٩
غاية البعد عن قابلية البيان فقال :﴿من صلصال﴾ أي يابس له صوت إذا نقر عليه ﴿كالفخار *﴾ أي كالخزف المصنوع المشوي بالنار لانه أخذه من التراب ثم خلطه بالماء حتى صار طيناً ثم تركه حتى صار حماء مسنوناً مبيناً، ثم صوره كما يصور الإبريق وغيره من الأواني ثم أيبسه حتى صار في غاية الصلابة فصار كالخزف الذي إذا نقر عليه صوت صوتاً يعلم منه هل فيه عيب أم لا، كما أن الآدمي بكلامه يعرف حاله وغاية أمره ومآله، فالمذكور هنا غاية تخليقه وهو أنسب بالرحمانية، وفي غيرها تارة مبدؤه وتارة إنشاؤه، فالأرض أمه والماء أبوه ممزوجين بالهواء الحامل للجزء الذي هو من فيح جهنم، فمن التراب جسده ونفسه، ومن الماء روحه وعقله، ومن النار غوايته وحدته، ومن الهواء حركته وتقلبه في محامده ومذامه.
ولما كان الجان الذي شمله أيضاً اسم الأنام مخلوقاً من العناصر الأربعة، وأغلبها في جبلته النار، قال تعالى :﴿وخلق الجانّ﴾ أي هذا النوع المستتر عن العيون بخلق أبيهم، وهو اسم جمع للجن.
ولما كان الجن يطلق على الملائكة لاستتارهم، بين أنهم لم يرادوا به هنا فقال :﴿من مارج﴾ أي شيء صاف خالص مضطرب شديد الاضطراب جداً والاختلاط، قال البغوي : وهو الصافي من لهب النار الذي لا دخان فيه، وقال القشيري، هو اللهب المختلف بسواد النار - انتهى.