ولما كان المقام لتقرير المنكرين ذكر الخبر المفهوم من السياق على وجه أفهم أن التقدير : أو أنتم الخالقون له أن نحن ؟ فقال : بل نحن ﴿الخالقون *﴾ أي الثابت لنا ذلك، فالآية من الاحتباك : ذكر أولاً ﴿تخلقون﴾ دليلاً على حذف مثله له سبحانه ثانياً، وذكر الاسم ثانياً دليلاً على حذف مثله لهم أولاً، وسر ذلك أنه ذكر ما هو الأوفق لأعمالهم مما يدل على وقت التجدد ولو وقتاً ما، وما هو الأولى بصفاته سبحانه مما يدل على الثبات والدوام.
ولما كان الجواب : أنت الخالق وحدك، وكان الطبيعي ربما قال : اقتضى ذلك الحرارة المخمرة للنطفة، وكانت المفاوتة للآجال مع المساواة في اسمية الحياة من الدلائل العظيمة على تمام القدرة على الإفناء والإبداء بالاختيار مبطلة لقول أهل الطبائع دافعة لهم، أكد ذلك الدليل بقوله :﴿نحن﴾ أي بما لنا من العظمة لا غيرنا ﴿قدرنا﴾ أي تقديراً عظيماً، لا يقدر سوانا على نقض شيء منه ﴿بينكم﴾ أي كلكم لم نترك أحداً منكم بغير حصة منه ﴿الموت﴾ أي أوجبناه على مقدار معلوم لكل أحد لا يتعداه، فقصرنا عمر هذا وربما كان في الأوج من قوة البدن وصحة المزاج، فلو اجتمع الخلق كلهم على إطالة عمره ما قدروا أن يؤخروه لحظة، وأطلنا عمر هذا وقد يكون في الحضيض من ضعف البدن واضطراب المزاج لو تمالؤوا على تقصيره طرفة عين لعجزوا، وأنتم معترفون بأنه سبحانه رتب أفعاله على مقتضى الكمال والقدرة والحكمة البالغة، فلو كانت فائدة الموت مجرد القهر لكانت نقصاً لكونه يعم الغني والفقير والظالم والمظلوم، ولكان جعل الإنسان مخلداً أولى وأحكم، ففائدته غير مجرد القهر وهي الحمل على إحسان العمل للقاهر خوفاً من العرض عليه والمحاسبة بين يديه ثم النقلة إلى دار الجزاء والترقية إلى العلوم التي البدن حجابها من تمييز الخبيث والطيب والعلم بمقادير الثواب والعقاب، وغير ذلك مما يبصره أولو الألباب.