ولما كان أخذ الإنسان من مأمنه على حالة غفلة بتوريطه في أسباب الهلاك لا يحس بالهلاك إلا وهو لا يقدر على التفصي فيها بوجه قال تعالى :﴿من حيث﴾ أي من جهات ﴿لا يعلمون *﴾ أي لا يتجدد لهم علم ما في وقت من الأوقات بغوائلها، وذلك أنه سبحانه يغرهم بالإمهال ولا يعاجلهم بالعقاب في وقت المخالفة كما يتفق لمن يراد به الخير فيستيقظ بل يمهلهم ويمدهم بالنعم حتى يزول عنهم خاطر التذكير فيكونوا منعمين في الظاهر مستدرجين في الحقيقة فيقولون : قد قلتم : إن القدر فائض عن القضاء وأن الأعمال قضاء وجزاءها قدر، ويقولون : إن أفعالنا في الدنيا قبيبحة ونحن لا نرى جزاءها إلا ما يسرنا لولا يعذبنا الله بما نقول فأنتم كاذبون في توعدنا فإنا كلما أحدثنا ما تسمونه معصية تجددت لنا نعمة، وذلك كما قادهم إلى تدريجهم وهم في غاية الرغبة، قال القشيري : والاستدراج أن يريد السىء ويطوي عن صاحبه وجه القصد حتى يأخذه بغتة فيدرج إليه شيئاً بعد شيء.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١١٣
ولما كان الاستدراج يكون بأسباب كثيرة من بسط النعم وغيرها، فأبرزه بالنون المشتركة بين الاستتباع والعظمة، وكان تأخير الأجل لا يكون إلا لله وحده بغير واسطة شيء قال سبحانه :﴿وأملي﴾ أي أوخر أنا وحدي في آجالهم وأوسع لهم في جميع تمتعهم ليزدادوا إثماً ﴿لهم﴾ لأنه لا يقدر على مد الأجل وترفيه العيش غيري.
ولما سلاه ﷺ بهذا غاية التسلية، علل أو استأنف في جواب من لعله يقول : لم يكون أحدهم على هذا الوجه ؟ مسمياً إنعامه كيداً :﴿إن كيدي﴾ أي ستري لأسباب الهلاك عمن أريد إهلاكه وإبدائي ذلك له في ملابس الإحسان وخلف العبر والامتنان ﴿متين *﴾ أي في غاية القوة حيث كان حاملاً للإنسان على غهلاك نفسه باختياره وسيعلم عند الأخذ أني لما أمهلته ما أهملته وأن إمهالي إنما كان استدراجاً.