ولما كان المأكل والمشارب في هذه الدار تورث التخم والأمراض وفيها ما لا يلذ، وكان ما وقع لأبينا آدم وأمنا حواء عليهما الصلاة والسلام على أكلة واحدة من وخامة العاقبة معروفاً، قال مؤمناً من ذلك :﴿هنيئاً﴾ أي أكلاً طيباً لذيذاً شهياً مع البعد عن كل أذى وسلامة العاقبة بكل اعتبار ولا فضلة هناك من بول ولا غائط ولا بصاق ولا مخاط ولا قرف ولا وهن ولا صداع ولا ثقل ولا شيء مؤذ.
ولما شوق إلى المسببات حملهم على أسبابهم وحضهم على المسابقة في تحصيلها والمثابرة والمداومة على الاستكثار منها ؛ فقال زيادة في لذتهم بأن ذلك على وجه العوض لا امتنان عليهم في شيء منه لأحد من الخلق، فإن أحب ما إلى الإنسان أن يأكل مما أفادته يمينه وحصله بعمله مع ما في ذلك من الشرف :﴿بما أسلفتم﴾ أي أعطيتم من أنفسكم لآخرتكم طوعاً من الأعمال الصالحة وبما تركتم من الدنيا مما هو
١٣٢
سافل بالنسبة إلى ما عوضتم عنه من أعمال القلب والبدن والمال ﴿في الأيام﴾ ولما كان سبحانه قد ضمن كل ما يشتغل به الإنسان من مصالح دنياه فهو واصل إليه لا محالة وإن فرغ أوقاته كلها لعباده ربه قال :﴿الخالية *﴾ أي الماضية في الدنيا التي انقضت وذهب واسترحتم من تعبها والتي لا شاغل فيها عن العبادة.
إما بترك الاشتغال بالمعاش للواصل إلى درجة التوكل، وإما بالسعي على وجه الاقتصاد بقصد المساعدة للعباد في أمور هذه الدار والإفضال عليهم وإن لا يكون كلاًّ عليهم من غير اعتماد على السعي بل امتثالاً للأمر مع القناعة بالكفاف.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٣٠