ولما كان المقصود تعظيم الموحى به، وأما الموحي إلى كل من الرسولين فواحد، بنى للمفعول قوله مبيناً لسيرة الجن في تلقيهم لهذا القرآن بالأخذ إرثاً من أشرف النبيين وإلقائهم له بالإبلاغ إلى غيرهم من وارث العلم منهم ليكون لهم الشرفان : شرف العلم لكمال أنفسهم، والتعليم لتكميل غيرهم، فيكون لهم مثل أجر من عمل بما ألقوه إليه وأملوه عليه :﴿أوحي إليّ﴾ أي أخبرت على وجه الخفاء ممن لا يعلم الغيب غيره في هذا القرآن الذي اتقضى إعجازه أن أكون أكثر الأنبياء تابعاً على لسان جبريل عليه السلام الذي هو أمينه والواسطة بينه وبين أنبيائه، ثم وضع موضع المفعول الذي لم يسم فاعله قوله :﴿أنه﴾ أي الشأن العظيم ﴿استمع﴾ أي بغاية الإصغاء والإقبال والتقبل والإلف استماعاً هو الاستماع في الحقيقة لأنه لقراءتي هذا القرآن ﴿نفر﴾ هم في غاية النفرة جبلة وطبعاً ﴿من الجن﴾ الذين هم في غاية الاستتار، وهم أجسام حية عاقلة خفيفة تغلب عليها النارية أو الهوائية كما تغلب على أجاسم الإنس الترابية، والنفر ما بين الثلاثة والعشرة، قال البغوي : وكانوا تسعة من جن نصيبين، وقيل : كانوا سبعة، وفي هذه العبارة دليل على أنه ﷺ ما رآهم ولا قرأ عليهم، وإنما اتفق حضورهم عند قراءته، وهل هذا الاستماع هو المذكور في الأحقاف أو غيره قال أبو حيان : المشهور أنه هو، وقيل : هو غيره، والجن الذين أتوه بمكة جن نصيبين، والذين أتوه بنخلة جن نينوى، والسورة التي استمعوها قال عكرمة : العلق، وقيل : الرحمن، ولم يذكر هنا ولا في الأحقاف أنه رآهم، ويظهر من الحديث تعدد الواقعة، فمنها ما كان في المبدأ ولم يكن معه أحد من الصحابة رضي الله عنهم كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي في الصحيح "أنهم فقدوه ﷺ ليلة من الليالي فالتمسوه في الأودية والشعاب، فلما أصبح إذا جاء من قبل حراء فقال : أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن،