ولما كان الاجتهاد في الخدمة دالاًّ على غاية المحبة، وكانت النية خيراً من العمل، وكان الإنسان مجبولاً على الضعف، وكان سبحانه لطيفاً بهذه الأمة تشرفياً لإمامها ﷺ، رضى منا سبحانه بصدق التوجه إلى العمل وجعل أجورنا أكثر من أعمالنا، فجعل غحياء البعض إحياء للكل، فأطلق اسم الكل وأراد البعض فقال :﴿الليل﴾ أي الذي هو وقت الخلوة والخفية والستر، فصل لنا في كل ليلة من هذا الجنس وقف بين يدينا بالمناجاة والأنس بما أنزلنا عليك من كلامنا فإنا نريد إظهارك وإعلاء قدرك في البر والبحر والسر والجهر، وقيام الليل في الشرع معناه الصلاة فلذا لم يقيده، وهي حامعة لأنواع الأعمال الظاهرة والباطنة، وهي عمادها، فذكرها دال على ما عداها.
ولما كان للبدن حظ في الراحة قال مستثنياً من الليل :﴿إلا قليلاً *﴾ أي من كل ليلة، ونودي هذا النداء لأنه ﷺ لما جاءه الوحي بغار حراء رجع إلى خديجة زوجته رضي الله تعالى عنها يرجف فؤاده فقال :"زملوني زملوني! لقد خشيت على نفسي" فسألته رضي الله عنها عن حاله، فلما قص عليها أمره - قال :"خشيت على نفسي
٢٠٣
" عني أن يكون هذا مبادئ شعر أو كهانة، وكل ذلك من الشياطين وأن يكون الذي ظهر له بالوحي ليس بملك، وكان ﷺ يبغض الشعر والكهانة غاية البغضة، فقالت له وكانت وزيرة صدق :" كلا والله! لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل ارحم وتقري الضيف وتحمل الكل وتعين على نوائب الحق " ونحو هذا من المقال الذي يثبت، وفائدة التزمل أن الشجاع الكامل إذا دهمه أمر هو فوق قواه ففرق أمره فرجع إلى نفسه، وقصر بصره وبصيرته على حسه، اجتمعت قواه إليه فقويت جبلته الصالحة على تلك العوارض التخييلية فهزمتها فرجع إلى أمر الجبلة العلية، وزال ما عرض من العلة البدنية.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٠٢