ولما كان الإنسان مركباً من خفيف طاهر وبدن هو مركب الحظوظ والشهوات واللوم والدنيات، فكان الروح بكماله والبدن بنقصانه يتعالجان، كل منهما يريد أن يغلب صاحبه، قوى سبحانه الروح بالشرع الداعي إلى معالي الأخلاق، الناهي عن مساويها، المبين لذلك غاية البيان على يد إنسان طبعه سبحانه على الكمال ليقدر على التلقي من الملائكة، فيكمل أبناء نوعه، فدل على ذلك بحال بناها من ضمير العظمة فقال مبيناً للغاية :﴿نبتليه﴾ أي نعامله بما لنا من العظمة بالأمر والنهي والوعظ معاملة المختبر ونحن أعلم به منه، ولكنا فعلنا ذلك لنقيم عليه الحجة على ما يتعارفه الناس، فإن العاصي لا يعلم أنه أريد منه العصيان، وكذا الطائع، فصار التكليف بحسب وهمه لما خلق الله له من القوة والقدرة الصالحة في الجملة.
ولما ذكر الغاية، أتبعها الإعدادات المصححة لها فقال :﴿فجعلناه﴾ أي بما لنا من العظمة بسبب ذلك ﴿سميعاً﴾ أي بالغ السمع ﴿بصيراً *﴾ أي عظيم البصر والبصيرة ليتمكن من مشاهدة الدلائل ببصره وسماع الآيات بسمعه، ومعرفة الحجج ببصيرته، فيصح تكليفه وابتلاؤه، فقدم العلة الغائية لأنها متقدمة في الاستحضار على التابع لها من المصحح لورودها، وقدم السمع لأنه أنفع في المخاطبات، ولأن الآيات المسموعة أبين من الآيات المرئية، قال الرازي في اللوامع وإلى هنا انتهى الخبر الفطري ثم يبتدئ منه الاختبار الكسبي - انتهى.
وذلك بنفخ الروح وهي حادثة بعد حدوث البدن بإحداث القادر المختار لها بعد تهيئة البدن لقبولها، ثم أفاض سبحانه على الجملة العقل، وجعل السمع والبصر اللتين له، ولعله خصهما لأنهما أنفع الحواس، ولأن البصر يفهم البصيرة وهي تتضمن الجميع، وجعل سبحانه له ذلك لاستقراء صور المحسوسات وانتزاع العلوم الكلية منها، وبذلك يكمل علمه الذي منه الدفع عن نفسه التي جعلها الله تعالى
٢٦٣


الصفحة التالية
Icon