ولما ذكر ما يمحق الرطوبة بحرارته، أتبعه ما يطفئ الحرارة برطوبته وبرودته فينشأ عنه المأكل والمشرب، التي بها تمام الحياة ويكون تولدها من الظرف بالمهاد والسقف، وجعل ذلك أشبه شيء بما يتولد بين الزوجين من الأولاد، فالسماء كالزوج والأرض كالمرأة، والماء كالمني، والنبات من النجم والشجر كالأولاد فقال :﴿وأنزلنا﴾ أي مما يعجز غيرنا ﴿من المعصرات﴾ أي السحائب التي أثقلت بالماء فشارفت أن يعرصها الرياح فتمطر كما حصد الزرع - إذا حان له أن يحصد، قال الفراء : المعصر، السحابة التي تتحلى بالمطر ولا تمطر كالمرأة المعصرة وهي التي دنا حيضها ولم تحض، وقال الرازي : السحائب التي دنت أن تمطر كالمعصرة التي دنت من الحيض ﴿ماء ثجاجاً *﴾ أي منصباً بكثرة يتبع بعضه بعضاً، يقال : ثجه وثج بنفسه.
٢٩٨
ولما ذكر بدايته، أتبعها نهايته فقال :﴿لنخرج﴾ أي بعظمتنا التي ربطنا بها المسببات بالأسباب ﴿به﴾ أي الماء تسبيباً ﴿حباً﴾ أي نجماً ذا حب هو مقصوده لأنه يقتاته العباد، صرح به لأنه المقصود وبدأ به لأنه القوت الذي به البقاء كالحنطة والشعير وغيرهما ﴿ونباتاً *﴾ يتفكهون ويتنزهون فيه وتعتلفه البهائم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٩٨
ولما كان من المشاهد الذي لا يسوغ إنكاره أن في الأرض من البساتين ما يفوت الحصر، عبر بجمع القلة تحقيراً له بالنسبة إلى باهر العظمة ونافذ الكلمة فقال :﴿وجنات﴾ أي بساتين تجمع أنواع الأشجار والنبات المقتات وغيره ﴿ألفافاً *﴾ أي ملتفة الأشجار مجتمعة بعضها إلى بعض من شدة الري، جمع لف كجذع، قال البغوي : وقيل : هو جمع الجمع، يقال : جنة لفاء، وجمعها لف - بضم اللام، وجمع الجمع ألفاف.
وتضمن هذا الذي ذكره المياه النابعة الجارية والواقفة، فاكتفى بذكره عن ذكرها، قال مقاتل : وكل من هذا الذي ذكر أعجب من البعث.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٩٨


الصفحة التالية
Icon