ولما كان جواب " إذا " كما مضى محذوفاً، وكان تقديره أن قسم الناس قسمين : قسم للجحيم وقسم للنعيم، قال تعالى مسبباً عنه مفصلاً :﴿فأما من طغى *﴾ أي تجاوز الحد في العدوان فلم يخش مقام ربه، قال في القاموس : طغى : جاوز القدر
٣١٩
وارتفع وطغى : إلا في الكفر وأسرف في المعاصي والظلم، والماء : ارتفع.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣١٨
ولما كان الذي بعد حدود الله هو الدنيا، صرح به فقال :﴿وآثر﴾ أي أكرم وقدم واختار ﴿الحياة الدنيا *﴾ بأن جعل أثر العاجلة الدنية لحضورها عنده أعظم من أثر الآخرة العليا لغيابها، فكان كالبهائم لا إدراك له لغير الجزئيات الحاضرة، فانهمك في جميع أعمالها وأعرض عن الاستعداد للآخرة بالعبادة وتهذيب النفس فلم ينه نفسه عن الهوى.
ولما كان الإنسان مؤاخذاً بما اكتسب، سبب عن أعماله هذه قوله مؤكداً لتكذيبهم ذلك :﴿فإن الجحيم﴾ أي النار الشديدة التوقد العظيمة الجموع على من يدخلها ﴿هي﴾ أي لا غيرها ﴿المأوى *﴾ أي المسكن له - هذا مذهب البصريين أن الضمير محذوف، وعند الكوفيين أن " أل " نائب عن الضمير - قاله أبو حيان.
ولما ذكر الطاغي، أتبه المتقي فقال :﴿وأما من خاف﴾ ولما كان ذلك الخوف مما يتعلق بالشيء لأجل ذلك الشيء أعظم من ذكر الخوف من ذلك الشيء نفسه فقال :﴿مقام ربه﴾ أي قيامه بين يدي المحسن إليه عند تذكر إحسانه فلم يطغ فكيف عند تذكر جلاله وانتقامه، أو المكان الذي يقوم فيه بين يديه والزمان، وإذا خاف ذلك المقام فما ظنك بالخوف من صاحبه، وهذا لا يفعله إلا من تحقق المعاد.