﴿قل يا أيها الكافرون﴾ فبين سبحانه أن من قضي عليه بالكفر والوفاة عليه لا سبيل له إلى خروجه عن ذلك، ولا يقع منه الإيمان أبداً ﴿ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وشحرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله﴾ [الأنعام : ١١] ولو أنهم بعد عذاب الآخرة ومعاينة العذاب والبعث وعظيم تلك الأهوال وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا وقولهم :﴿ربنا فارجعنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل﴾ [السجدة : ١٢] فلو أجيبوا إلى هذا ورجعوا لعادوا إلى حالهم الأول ﴿ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه﴾ [الأنعام : ١٢٨] تصديقاً لكلمة الله وإحكاماً لسابق قدره ﴿أفمن حق عليه كلمة عابدون ما أعبد﴾ إلى آخرها، فبان أمر الفريقين وارتفع الإشكال، واستمر كل على طريقه ﴿فلا تذهب نفسك عليم حسرات﴾ [فاطر : ٨] ﴿إن عليك إلا البلاغ﴾ [الشورى : ٤٨] فتأمل موقع هذه السورة وأنها الخاتمة لما قصد في الكتاب يلح لك وجه تأخيرها - والله أعلم - انتهى.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥٥٤
ولما كان القصد إعلامهم بالبراءة منهم من كل وجه، وأنه لا يبالي بهم بوجه لأنه محفوظ منهم، قال مؤذناً بصدق خبره تعالى آخر الكوثر من حيث إنه مع الجزم بالمنابذة لا يستطيعون له نوع مكابدة نافذة، بادئاً بالبراءة من جهته لأنها الأهم :﴿لا أعبد﴾ أي الآن ولا في مستقبل الزمان لأن ﴿لا﴾ للمستقبل و﴿ما﴾ للحال، كذا قالوا، وظاهر عبارة سيبويه في قوله :﴿لن﴾ نفي لقوه ﴿سيفعل﴾ ﴿ولا﴾ لقوله :﴿يفعل﴾، ولم يقع : أنها تقع للمضارع الذي لم يقع سواء كان في غاية القرب من الحال أم لا، كما نقلته عنه في أول البقرة عند ﴿ولن تفعلوا﴾ [البقرة : ٢٤] على أن نطقنا بهذا الكلام لا يكاد يتحقق حتى يمضي زمن فيصير مستقبلاً، فلذا عبر بـ " لا " دون " ما " بشارة بأنه سبحانه يثبته على الصراط المستقيم، ولا يظفرهم به - علماً من أعلام النبوة.