ولما كان الملك الأعظم سبحانه لم ينزل داء إلا أنزل له دواء، وكان قد جعل دواء الوسوسة ذكره سبحانه وتعالى، فإنه يطرد الشيطان وينير القلب ويصفيه، وصف سبحانه وتعالى فعل الموسوس عند استعمال الدواء إعلاماً بأنه شديد العداوة للإنسان ليشتد حذره منه وبعده عنه فقال :﴿الخناس *﴾ أي الذي عادته أن يخنس أي يتوارى ويتأخر ويختفي بعد ظهوره مرة بعد مرة، كلما كان الذكر خنس، وكلما بطل عاد إلى وسواسه، فالذكر له كالمقامع التي تقمع المفسد، فهو شديد النفور منه، ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلاً كما ورد عن بعض السلف أن المؤمن ينفي شيطانه كما ينفي الرجل بعيره في السقر، قال البغوي : له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان، ويقال : رأسه كرأس الحية واضع رأسه على يمين القلب يحدثه، فإذا ذكر الله خنس، وإذا لم يذكر الله رجع ووضع رأسه - خزاه الله تعالى.
٦١٥
ولما ذكر صفة المستعاذ منه، ذكر إبرازه لصفته بالفعل فقال :﴿الذي يوسوس﴾ أي يلقي المعاني الضارة على وجه الخفاء والتكرير بحيث تصل مفاهيمها من غير سماع، وأشار إلى كثرة وسوسته بذكر الصدر الذي هو ساحة القلب ومسكنه فقال :﴿في صدور الناس *﴾ أي المضطربين إذا غفلوا عن ذكر ربهم، فإنها دهاليز القلوب منها تدخل الواردات إليها، وذلك كالقوة الوهمية فإن العقل يساعد في المقدمات الحقة المنتجة للأمر المقطوع به، فإذا وصل الأمر إلى ذلك خنست الواهمة ريثما يفتر العقل عن النتيجة فترة ما، فتأخذ الواهمة في الوسوسة وتقبل منها الطبيعة بما لها بها من مجانسة الظلمة الوهمية، والناس - قال في القاموس : يكون من الإنس ومن الجن، جميع إنس أصله أناس جمع عزيز أدخل عليه أل - انتهى، ولعل إطلاقه على هذين المتقابلين بالنظرإلى النوس الذي أصله الاضطراب والتذبذب فيكون منحوتاً من الأصلين : الانس والنوس، ومن ثالث وهو النسيان.