" صفحة رقم ٣٣١ "
فإن قيل : كيف جاز أن يعذّب جلد لم يعصه قلنا : إنّ المعاصي والألم واقع على نفس. الإنسان لا الجلد، لأن الجلود إنما تألم بالأرواح، والدليل على من يقصد تعذيب الأبدان لا يعذّب ) الجلود ( قوله :) ليذوقوا العذاب (، لم يقل ليذوق العذاب.
وقيل : معناه : يبدّل جلوداً هي تلك الجلود المحترقة، وذلك أنّ غير على ضربين : غير تضاد، وغير تناف، وغير تبديل، فغير تضاد مثل قولك : للصّائغ صغ لي من هذا الخاتم خاتماً غيره فيكسره ويصوغ لك خاتماً، فالخاتم المصوغ هو الأول ولكن الصياغة تغيّرت والفضّة واحد.
وهذا كعهدك بأخٍ لك صحيحاً ثم تراه بعد ذلك سقيماً مدنفاً فتقول : فكيف أنت ؟ فيقول : أنا على غير ما عهدت، فهو هو، ولكن حالهُ تغيّرت، ونظير هذا قوله تعالى ) يوم تبدّل الأرض غير الأرض ( وهي تلك الأرض بعينها إلاّ أنها قد بُدّلت جبالها وآكامها وأنهارها وأشجارها، وأنشد :
فما النّاس بالنّاس الذين عهدتهم
ولا الدّار بالدّار التي كنت أعرف
قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا نصير محمد بن محمد بن مزاحم يقول : سمعت مزاحم بن محمد بن شاردة الكشي يقول : سمعت جابر بن زيد يقول : سمعت وكيع بن الجراح يقول : سمعت إسرائيل يقول : سمعت الشعبي يقول : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : ألا ترى ما صنعت عائشة ذمَّت دهرها وذلك ( أنها ) أَنشدت بيتي لبيد :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
يتلذّذون مجانة ومذلّة
ويعاب قائلهم وإن لم يشغب
فقالت : رحم الله لبيد وكيف لو أدرك زماننا هذا.
فقال له ابن عباس : لئن ذمّت ( عائشة ) دهرها لقد ذمت عاد دهرها، وذلك إنه وجد في خزانة عاد بعدما هلكت سهم كأطول ما يكون من رماحاً عليه مكتوب :
وليس لي أحناطي بذي اللوى
لوى الرمل من قبل النفوس معاد
بلاد بها كنا ونحن من أهلها
إذ الناس ناس والبلاد بلاد