فإن قيل : إن عفا يتعدّى بعن لا باللام فما وجه قوله فمن عفي له أجيب : بأن عفا يتعدّى بعن إلى الجاني وإلى الذنب فيقال : عفوت عن فلان وعن ذنبه قال تعالى : عفا الله عنك وقال : عفا الله عنها، فإذا تعدّى إلى الذنب والجاني معاً قيل : عفوت لفلان عما جنى كما تقول : غفرت له ذنبه وتجاوزت له عنه وعلى هذا ما في الآية كأنه قيل : فمن عفي له عن جنايته فاستغنى عن ذكر الجناية ﴿وأداء﴾ أي : وعلى القاتل أداء الدية ﴿إليه﴾ أي : العافي وهو الوارث ﴿بإحسان﴾ أي : بلا مطل ولا بخس ﴿ذلك﴾ الحكم المذكور في العفو والدية ﴿تخفيف من ربكم ورحمة﴾ لما فيه من التسهيل والنفع ؛ لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص البتة وحرم العفو وأخذ الدية، وعلى أهل الإنجيل العفو وحرم القصاص والدية، وخيرت هذه الأمّة بين الثلاث : القصاص والدية والعفو توسعة عليهم وتيسيراً ﴿فمن اعتدى﴾ أي : ظلم القاتل بأن قتله ﴿بعد ذلك﴾ أي : العفو على الدية أو مجاناً ﴿فله عذاب أليم﴾ أي : مؤلم في الآخرة بالنار أو في الدنيا بالقتل أو أخذ الدية إن عفى عنها وقوله تعالى :
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٣١
ولكم في القصاص حياة﴾ كلام في غاية الفصاحة والبلاغة حيث جعل الشيء محل ضدّه وعرف القصاص ونكر الحياة ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم نوعاً من الحياة عظيماً وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة. قال الزمخشريّ : وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل، وكان يقتل بالمقتول غير قاتله، فتثور الفتنة ويقع بينهم التشاجر، فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أو نوع من الحياة وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لأنّ القاصد للقتل ؛ إذا علم أنه إن قتل يقتل يمتنع فيكون فيه بقاؤه وبقاء من يهتم بقتله وفي المثل : القتل أنفى للقتل وقيل في المثل : القتل قلل القتل وقيل : المراد بالحياة، الحياة الأخروية، فإنّ القاتل إذا اقتص منه في الدنيا لم يؤاخذ به في الآخرة هذا بالنسبة للآدميّ وأمّا بالنسبة لله تعالى، فإن تاب فكذلك وإلا فهو تحت المشيئة، ثم نادى ذوي العقول الكاملة بقوله :﴿يا أولي الألباب﴾ للتأمّل في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس، ثم بين سبحانه وتعالى مشروعية ذلك بقوله :﴿لعلكم تتقون﴾ القتل مخافة القود أو تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به والإذعان له وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة.
﴿كتب﴾ أي : فرض ﴿عليكم إذا حضر أحدكم الموت﴾ أي : حضرت أسبابه وظهرت أماراته ﴿إن ترك خيراً﴾ أي : مالاً نظيره قوله تعالى :﴿وما تنفقوا من خير﴾ (البقرة، ٢٧٢) وقيل : مالاً كثيراً لما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ رجلاً أراد الوصية فسألته : كم مالك ؟
فقال : ثلاثة آلاف فقالت : كم عيالك ؟
قال : أربعة قالت : إنما قال الله تعالى إن ترك خيراً وإن هذا الشيء يسير فاتركه لعيالك.
وعن عليّ رضي الله تعالى عنه أنّ مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة درهم فمنعه وقال : قال الله تعالى :﴿إن ترك خيراً﴾ والخير هو المال الكثير وقوله تعالى :﴿الوصية﴾ مرفوع بكتب وذكر فعلها للفاصل ولأنها بمعنى أن يوصي ولذلك ذكر الراجع في قوله : فمن بدّله بعدما سمعه والعامل
١٣٤
في إذا مدلول كتب لا الوصية لتقدّمه عليها وجواب أنّ أي : فليوص ﴿للوالدين والأقربين بالمعروف﴾ بالعدل فلا يفضل الغني ولا يتجاوز الثلث لما روي عن سعيد بن مالك رضي الله تعالى عنه قال :"جاءني النبيّ ﷺ يعودني فقلت : يا رسول الله أوصي بمالي كله قال : لا قلت : فالشطر قال : لا قلت : فالثلث قال : الثلث والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس بأيديهم" أي : يسألون الناس الصدقة بأكفهم، وقوله تعالى :﴿حقاً﴾ مصدر قال البيضاويّ تبعاً للزمخشريّ وغيره مؤكد لمضمون الجملة قبله أي : حق ذلك حقاً وردّه أبو حيان بأنّ قوله تعالى على المتقين متعلق بحقاً أو صفة له وكل منهما يخرجه عن التأكيد، أما الأوّل فلأن المصدر المؤكد لا يعمل إنما يعمل المصدر الذي ينحل إلى حرف مصدري، والفعل أو المصدر الذي هو بدل من اللفظ بالفعل، وأمّا الثاني فلأنّ حقاً مصدر مخصص بالصفة فلا يكون مؤكداً وقيل : حقاً نعت لمصدر كتب أو أوصى أي : كتباً أو إيصاء حقاً وقيل : حال من مصدر أحدهما معرّفاً وقيل : نصب على المفعولية أي : جعل الوصية حقاً ﴿على المتقين﴾ الله وهذا منسوخ بآية المواريث وبقوله ﷺ "إن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث" بناءً على الأصح من أن الكتاب ينسخ بالسنة وإن لم تتواتر وبذلك ظهر ما في قول بعضهم : إنّ الكتاب لا ينسخ بالسنة وإن الحديث من الآحاد.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٣١