هن لباس} أي : سكن ﴿لكم وأنتم لباس﴾ أي : سكن ﴿لهنّ﴾ كما قال تعالى :﴿وجعل منها زوجها ليسكنإليها﴾ (الأعراف، ١٨٩) وكما قيل : لا يسكن شيء إلى شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر، وقيل : سمي كل واحد من الزوجين لباساً ؛ لتجرّدهما عند النوم وتعانقهما واجتماعهما في ثوب واحد حتى يصير كل واحد من الزوجين لصاحبه كالثوب الذي يلبسه. قال الجعدي :
١٤١
*إذا ما الضجيع ثنى عطفها ** تثنت فكانت عليه لباسا*
والضجيع : المضاجع، وما زائدة، وثنى عطفها : أمال شقها، وتثنت مالت، والشاهد في قوله : فكانت عليه لباساً وقيل : إنّ كلاً منهما يستر حال صاحبه ويمنعه من الفجور، كما جاء في الخبر :"من تزوّج فقد أحرز ثلثي دينه.
﴿علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم﴾ أي : تظلمونها بتعريضها للعقاب، وتنقيص حظها من الثواب بالمجامعة بعد العشاء كما وقع ذلك لعمر وغيره، وقال البراء : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله هذه الآية.
﴿فتاب عليكم﴾ أي : قبل توبتكم ﴿وعفا عنكم﴾ أي : محا ذنوبكم، ولم يمل أحد ألف عفا لأنه واوي ﴿فالآن﴾ أي إذا نسخ عنكم التحريم ﴿باشروهن﴾ أي : جامعوهنّ حلالاً، وسمى المجامعة مباشرة لتلاصق بشرة كل واحد منهما بصاحبه ﴿وابتغوا﴾ أي : واطلبوا ﴿ما كتب الله لكم﴾ أي : ما قسم لكم، وأثبت في اللوح من الولد بالمباشرة أي : لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل، أو قصد العفة، وقال مجاهد : ابتغوا الولد فإن لم تلد هذه فهذه، وقال مقاتل : وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم بإباحة الأكل والشرب والجماع. في اللوح المحفوظ، وقيل : وابتغوا المحل الذي كتب الله لكم وحلله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم وقيل : هو نهي عن العزل لأنه في الحرائر.
فقوله تعالى :﴿وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر﴾ أي : الصادق، نزل في رجل من الأنصار، قال عكرمة : اسمه أبو قيس، وذلك أنه ظل نهاره يعمل في أرض وهو صائم فلما أمسى رجع إلى أهله بتمر، فقال لامرأته : قدّمي الطعام وأرادت المرأة أن تطعمه شيئاً، سخناً فأخذت تعمل له في شيء وكان في ابتداء الإسلام من صلى العشاء أو نام قبلها حرم عليه الطعام والشراب، فلما فرغت من طعامه إذ هو قد نام وكان قد أعيا وكلّ، فأيقظته فكره أن يعصي الله ورسوله، وأبى أن يأكل، فأصبح صائماً مجهوداً فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه، فلما أفاق أتى رسول الله ﷺ فلما رآه قال :"يا أبا قيس مالك أمسيت طليحاً، فذكر له حاله فاغتم لذلك رسول الله ﷺ فأنزل الله هذه الآية".
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٤١
وقد شبّه سبحانه وتعالى أوّل ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق، وما يمتدّ معه من غبش الليل بخيطين أبيض وأسود، واكتفى ببيان الخيط الأبيض بقوله : من الفجر عن بيان الخيط الأسود ؛ لدلالته عليه ويصح أن تكون من للتبعيض، فإنما يبدو بعض الفجر، وعلى كل منهما فهي مع مدخولها في محل الحال، والمعنى على التبعيض حال كون الخيط الأبيض بعضاً من الفجر وعلى البيان حال كونه هو الفجر.
فإن قيل : كيف التبس على عدي بن حاتم مع هذا البيان حتى قال : عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أقوم من الليل فلا يتبين لي الأسود من الأبيض، فلما أصبحت غدوت إلى النبيّ ﷺ فأخبرته فضحك وقال :"إن كان وسادك إذاً لعريضاً" وروي :"إنك
١٤٢
لعريض القفا إنما ذاك بياض النهار من الليل" أجيب : بأنه غفل عن البيان ولذلك عرض رسول الله ﷺ قفاه ؛ لأنه مما يستدل به على بلادة الرجل وقلة فطنته، وقال سهل بن سعد الساعدي نزلت ولم ينزل من الفجر، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له، فأنزل الله تعالى بعد ذلك من الفجر.
فإن قيل : كيف جاز فعل ذلك في رمضان مع تأخير البيان وهو يشبه العبث، حيث لا يفهم منه المراد ؟
أجيب : بأنّ ذلك كان قبل دخول رمضان، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز، واكتفى أوّلاً باشتهارهما في ذلك، ثم صرح بالبيان لمَّا التبس على بعضهم. ﴿ثم أتموا الصيام﴾ من الفجر ﴿إلى الليل﴾ أي : إلى دخوله بغروب الشمس، كما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال : قال رسول الله ﷺ "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم" أي : دخل وقت إفطاره.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٤١