تنبيه : إنما قدّرت في الآية الكريمة من الفجر ليدل على عدم جواز النية في النهار في صوم رمضان كما هو مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ؛ ولأنّ إلى يكون المغيا بها ينقضي شيئاً فشيئاً، والإتمام فعل الجزء الأخير فقط، وهو ينقضي كذلك، وفي الآية دليل على نفي الوصال ؛ لأنه تعالى جعل الليل غاية الصوم وغاية الشيء منتهاه، وما بعدها يخالف ما قبلها. ﴿ولا تباشروهنّ﴾ أي : نساءكم ﴿وأنتم عاكفون﴾ أي : مقيمون ﴿في المساجد﴾ بنية الاعتكاف، والمراد بالمباشرة الوطء، والآية نزلت في نفر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كانوا يعتكفون في المسجد، فإذا عرضت للرجل منهم الحاجة إلى أهله خرج إليها فجامعها، ثم اغتسل ثم يرجع إلى المسجد، فنهوا عن ذلك ليلاً ونهاراً حتى يفرغوا من اعتكافهم، وفيه دليل على أنّ الاعتكاف لا يختص بمسجد دون مسجد، وأن يكون في المسجد لا في غيره ؛ إذ ذكر المساجد لا جائز أن يكون لجعلها شرطاً في منع مباشرة المعتكف لمنعه منها، وإن كان خارج المسجد ويمنع غيره أيضاً منها فيها، فتعين كونها شرطاً لصحة الاعتكاف، وأنّ الوطء محرّم في الاعتكاف ويفسده ؛ لأنّ النهي في العادات يوجب الفساد، أما ما دون الجماع من المباشرات فإن كان بشهوة فحرام، ولا يبطل اعتكافه إن لم ينزل، فإن أنزل وكان بلا حائل فكالجماع وإلا فلا، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت :"كان رسول الله ﷺ إذا اعتكف أدنى إليّ رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" ﴿تلك﴾ الأحكام المذكورة وهي قوله تعالى :﴿الآن باشروهنّ﴾ إلى قوله تعالى ﴿في المساجد﴾ ﴿حدود الله﴾ حدها لعذابه ليقفوا عندها ﴿فلا تقربوها﴾ نهى تعالى أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل ؛ لئلا يداني الباطل فضلاً أن يتخطى عنه، وهذا أبلغ من قوله تعالى في آية أخرى ﴿فلا تعتدوها﴾ (البقرة، ٢٢٩)، لكن في ذلك مأمورات وهي لا ينهى عن قربانها، فالمراد منها أضدادها بناء على أنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه أو مستلزم له ؛ ليصح النهي عن قربانها،
١٤٣
ويجوز أن يراد بحدود الله محارمه ونواهيه. وعلى هذا فالنهي عن القربان ظاهر كما قال عليه الصلاة والسلام :"إنّ لكل ملك حمى، وإن حمى الله في أرضه محارمه، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه" رواه الشيخان ﴿كذلك﴾ أي : كما بيّن لكم ما ذكر ﴿يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون﴾ أي : لكي يتقوا مخالفة الأوامر والنواهي فينجوا من العذاب.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٤١
ولا تأكلوا أموالكم بينكم﴾
أي : لا يأكل بعضهم مال بعض ﴿بالباطل﴾ أي : الحرام شرعاً كالغصب والسرقة وقوله تعالى :﴿وتدلوا﴾ مجزوم داخل في حكم النهي، أو منصوب بإضمار، أن والإدلاء الإلقاء أي : ولا تلقوا ﴿بها﴾ أي : بحكومتها وبالأموال رشوة ﴿إلى الحكام لتأكلوا﴾ بالتحاكم ﴿فريقاً﴾ أي : طائفة ﴿من أموال الناس بالإثم﴾ أي : بما يوجب إثماً كشهادة الزور واليمين الكاذبة أو متلبس بالإثم، فالباء إمّا للسببية فتكون متعلقة بتأكلوا، أو للمصاحبة فتتعلق بمحذوف، وتكون مع مدخولها حالاً من فاعل تأكلوا ﴿وأنتم تعلمون﴾ أنكم مبطلون فإن ارتكاب المعصية مع العلم أقبح.
روي "أن عبدان الحضرمي ادّعى على امرىء القيس الكندي قطعة أرض ولم يكن له بينة فحكم رسول الله ﷺ بأن يحلف امرؤ القيس فهمّ بالحلف فقرأ عليه رسول الله ﷺ ﴿إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً﴾ (آل عمران، ٧٧) فارتدع عن اليمين، وسلّم الأرض لعبدان" فنزلت، وهو دليل على أنّ حكم القاضي لا ينفذ في باطن الأمر وفيه خلاف ظاهر، ويؤيده قوله ﷺ لخصمين اختصما إليه :"إنما أنا بشر وأنتم تختصمون لديّ، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته ـ أي : أقوم وأقدر ـ عليها من بعض فأقضي له على ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من أخيه فإنما أقطع له قطعة من نار" قبكيا وقال كل واحد منهما : حقي لصاحبي، فقال :"اذهبا وتواخيا ثم استهما ثم ليحل كل واحد منكما صاحبه" و"سأل معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم رسول الله ﷺ ما بال الهلال يبدو دقيقاً كالخيط ثم يزيد حتى يمتلىء نوراً ويستوي ثم لا يزال ينقص حتى يعود دقيقاً كما بدا ولا يكون على حالة واحدة كالشمس ؟
فنزل :
﴿يسئلونك﴾ يا محمد ﴿عن الأهلة﴾ جمع هلال مثل رداء وأردية، والهلال اسم له : أوّل الليلة الأولى والثانية والثالثة، وبعدها يسمى قمراً، وهنا سماه بأوّل حالاته لأنّ الناس يرفعون أصواتهم بالذكر عند رؤيته من قولهم : استهل الصبيّ إذا صرخ حين يولد ﴿قل﴾ لهم ﴿هي مواقيت﴾ جمع ميقات أي : معالم ﴿للناس﴾ يعلمون بها أوقات زرعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصيامهم وإفطارهم وعدد نسائهم وأيام حيضهنّ ومدّة حملهنّ وغير ذلك.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٤١


الصفحة التالية
Icon