وقوله تعالى :﴿والحج﴾ عطف على الناس أي : يعلمون بها وقته أداء وقضاء، هذه هي الحكمة الظاهرة في ذلك، ولهذا خالف بين الأهلة وبين الشمس فلو استمرّت الأهلة على حالة لم
١٤٤
يعرف حال ما ذكر، ولما كان الناس في الجاهلية وفي أوّل الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج أو العمرة لم يدخل حائطاً ولا بيتاً ولا داراً من بابه فإن كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته ويدخل منه ويخرج، أو يتخذ سلماً فيه فيصعد منه، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط، ولا يدخل ولا يخرج من الباب حتى يحل من إحرامه ويرون ذلك براً، إلا أن يكون من الحمس وهم : قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وبنو عامر بن صعصعة، وبنو نضر بن معاوية، سموا حمساً لشدّتهم في دينهم، والحماسة : الشدّة والصلاة، فدخل رسول الله ﷺ ذات يوم بيتاً لبعض الأنصار فدخل رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن تابوت على أثره من الباب وهو محرم فأنكروا عليه، فقال له رسول الله ﷺ "لم دخلت من الباب وأنت محرم ؟
" قال : رأيتك دخلت فدخلت على أثرك فقال له رسول الله ﷺ "فإني أحمس" فقال الرجل : فإن كنت أحمس فإني أحمس رضيت بهداك وبسمتك ودينك فأنزل الله تعالى ﴿وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البر﴾ أي : ذا البر ﴿من اتقى﴾ الله، بترك مخالفته، ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنهم سألوا عن الحكمة في اختلال حال القمر وعن حكم دخولهم بيوتهم من غير أبوابها أو أنه تعالى لما ذكر أنها مواقيت الحج، وهذا أيضاً من أفعالهم في الحج ذكره للاستطراد، وأنهم لما سألوا عما لا يعنيهم ولا يتعلق بعلم النبوّة وتركوا السؤال عما يعنيهم وهو معرفة الحلال والحرام، ويختص بعلم النبوّة، عقب بذكره جواب ما سألوه تنبيهاً على أنّ اللائق بهم أن يسألوا عن أمثال ذلك، ويهتموا بالعلم بها، أو على أنّ المراد به التنبيه على تعكيسهم السؤال وتمثيلهم بحال من ترك باب البيت، ودخل من ورائه، والمعنى وليس البرّ أن تعكسوا في مسائلكم ولكن من اتقى ذلك ولم يجسر على مثله.
﴿وائتوا البيوت من أبوابها﴾ في الإحرام كغيره ؛ إذ ليس في العدول برأ، وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها والمراد توطين النفوس وربط القلوب على أنّ جميع أفعال الله تعالى حكم وصواب من غير اختلاج شبهة، ولا اعتراض شك في ذلك حتى لا يسأل عنه كما في السؤال من الاتهام بمقارنة الشك لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٤١
واتقوا الله﴾ في تغيير الأحكام ﴿لعلكم تفلحون﴾ لكي تفوزوا بالهدى والبرّ، وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص البيُوت بضمّ الباء حيث جاء معرفاً كان أو منكراً، وكسرها الباقون، ولا خلاف في وليس البرّ هنا، أنّ الراء مرفوعة للجميع، وقرأ نافع وابن عامر : ولكن بكسر النون مخففة ورفع الراء، والباقون بفتح النون مشدّدة ونصب الراء، ولما صدّ المشركون رسول الله ﷺ عن البيت عام الحديبية، وذلك أنّ رسول الله ﷺ خرج مع أصحابه للعمرة، وكانوا ألفاً وأربعمائة فساروا حتى نزلوا الحديبية فصدهم المشركون من البيت الحرام، وصالحوه على أن يرجع من قابل، فيخلوا له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت، فلما كان العام المقبل تجهز رسول الله ﷺ لعمرة القضاء وخاف المسلمون أن لا يوفوا لهم ويقاتلوهم في الحرم، والإحرام والشهر الحرام، وكره المسلمون ذلك نزل.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٤١
١٤٥
﴿وقاتلوا﴾ أي : جاهدوا ﴿في سبيل الله﴾ لإعلاء كلمته وإعزاز دينه ﴿الذين يقاتلونكم﴾ من الكفار ﴿ولا تعتدوا﴾ عليهم بالابتداء بالقتال ﴿إنّ الله لا يحب المعتدين﴾ أي : لا يريد بهم الخير ؛ لأنه غاية المحبة إذ المحبة حقيقتها محال في حقه تعالى ؛ لأنها ميل النفس، وسبب ذلك أنهم كانوا منعوا من قتال الكفار وأمروا بالصبر على أذاهم بقوله تعالى :﴿لتبلون في أموالكم﴾ (آل عمران، ١٨٦) الآية، ثم أمروا به إذا ابتدؤوا به بهذه الآية، ثم أبيح لهم ابتداؤه في غير الأشهر الحرم بقوله تعالى :﴿فإذا انسلخ الأشهر الحرم﴾ (التوبة، ٥) الآية، ثم أمروا به مطلقاً من غير تقييد بشرط ولا زمان بقوله تعالى :﴿واقتلوهم حيث ثقفتموهم﴾ أي : وجدتموهم في حل أو حرم، وقرأ أبو عمرو بإدغام الثاء في الثاء بخلاف عنه، حيث جاء ﴿وأخرجوهم من حيث أخرجوكم﴾ أي : من مكة وقد فعل ذلك بمن لم يسلم عام الفتح ﴿والفتنة﴾ أي : الشرك منهم ﴿أشدّ﴾ أي : أعظم ﴿من القتل﴾ لهم في الحرم أو الإحرام الذي استعظمتموه، أو المحنة التي يفتتن بها الإنسان : كالإخراج من الوطن أصعب من القتل لدوام تعبها وتألم النفس بها. قيل لبعض الحكماء : ما أشدّ من الموت ؟
قال : الذي يتمنى فيه الموت. وقال القائل :
*لقتلٌ بحد السيف أهون موقعاً ** على النفس من قتل بحدّ فراق