فإن قيل : هلا منعت الصرف وفيها السببان : العلمية والتأنيث أجيب : بأن التأنيث لا يخلو : إما أن يكون بالتاء التي في لفظها وأما بتاء مقدرة كما في سعاد فالتي في لفظها ليست للتأنيث، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع التأنيث ولا يصح تقدير التاء فيها لأنّ هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها كما، لا تقدر تاء التأنيث في بنت لأن التاء التي فيها هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث فأبت تقديرها، وفي الآية دليل على وجوب الوقوف بعرفة لأنّ إذا تدل على أنّ المذكور بعدها محقق لا بدّ منه، فكأنه قيل بعد إفاضتكم من عرفات التي لا بدّ منها اذكروا الله، والإفاضة من عرفات لا تكون إلا بعد الوقوف بها، فوجب أن يكون الوقوف بها واجباً، وعن النبيّ ﷺ "الحج عرفة فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج".
﴿فاذكروا الله﴾ بالتلبية والتهليل والتكبير والثناء والدعوات وقيل : بصلاة المغرب والعشاء ﴿عند المشعر الحرام﴾ وهو جبل في آخر المزدلفة يقال له قزح، وفي الحديث "أنه ﷺ وقف به يذكر الله تعالى ويدعو حتى أسفر جدّاً" رواه مسلم. وقال جابر "دفع رسول الله ﷺ حتى أتى بالمزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام استقبل القبلة فدعا وكبر وهلل ووحد ولم يزل واقفاً حتى أصبح جداً".
وقوله تعالى :﴿عند المشعر الحرام﴾ معناه مما يلي المشعر الحرام قريباً منه وذلك للفضل كالقرب من جبل الرحمة وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر، ويسمى مشعراً من الشعار وهي : العلامة ؛ لأنه من معالم الحج، ووصف بالحرام لحرمته وتسمى المزدلفة جمعاً ؛ لأنه يجمع فيها بين صلاتي المغرب والعشاء، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه نظر إلى الناس ليلة جمع فقال : لقد أدركت الناس هذه الليلة لا ينامون، وقيل : سميت جمعاً لأنّ آدم اجتمع فيها مع حوّاء عليهما الصلاة والسلام وازدلف إليها أي : دنا منها وقيل : وصفت بفعل أهلها لأنهم يزدلفون إلى الله تعالى أي : يتقرّبون بالوقوف فيها.
﴿واذكروه كما هداكم﴾ لمعالم دينه ومناسك حجه والكاف للتعليل. ﴿وإن كنتم من قبله﴾ أي : الهدى ﴿لمن الضالين﴾ أي : الجاهلين بالإيمان والطاعة، وإن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة وقيل : إن هي النافية واللام بمعنى إلا كقوله تعالى :﴿وإن نظنك لمن الكاذبين﴾ (الشعراء، ١٨٦) أي : ما نظنك إلا من الكاذبين.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٥١
ثم أفيضوا﴾
يا قريش ﴿من حيث أفاض الناس﴾ وذلك أنهم وحلفاءهم ومن دان بدينهم وهم الحمس كانوا يقفون بالمزدلفة وسائر الناس بعرفة ويرون ذلك ترفعاً عليهم، ويقولون : نحن
١٥٢
أهل الله وقطان حرمه، ولا نخرج منه، فأمروا أن يساووهم، وثم للترتيب في الذكر، وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره : فمن فرض فيهن الجمع فلارفت ولا فسوق ولا جدال في الحج، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، وقيل : لتفاوت ما بين الإفاضتين أي : لتراخي الثانية عن الأولى رتبة إذ الأولى هي الصواب والثانية خطأ كما في قولك : أحسن إلى الناس، ثم لا تحسن إلى غير كريم، فإنك تأتي بثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم وإلى غيره وبعد ما بينهما وقيل : ثم بمعنى الواو كما في قوله تعالى :﴿ثم كان من الذين آمنوا﴾ (البلد، ١٧) ﴿واستغفروا الله﴾ من ذنوبكم في تغيير المناسك وغيره ﴿إنّ الله غفور رحيم﴾ يغفر ذنوب المستغفر وينعم عليه.
﴿فإذا قضيتم﴾ أي : أديتم ﴿مناسككم﴾ أي : عبادات حجكم كأن رميتم جمرة العقبة وطفتم واستقررتم بمنى، وأدغم أبو عمرو الكاف في الكاف بخلاف عنه، ولم يدغم مثلين من كلمة في القرآن إلا هنا وفي سورة المدثر وهو قوله تعالى :﴿ما سلككم في سقر﴾ (المدثر، ٤٢).
﴿فاذكروا الله﴾ بالتكبير والتحميد والثناء عليه ﴿كذكركم آباءكم﴾ وذلك أنّ العرب كانت إذا فرغت من الحج وقفت بين المسجد بمنى وبين الجبل فيعدون فضائل آبائهم ويذكرون محاسن أيامهم، فأمرهم الله تعالى بذكره وقال : فاذكروني فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبآبائكم، وأحسنت إليكم وإليهم، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : فاذكروا الله كذكر الصبيان الصغار الآباء، وذلك أنّ الصبيّ أولّ ما يتكلم يلهج بذكر أبيه ولا يذكر غيره، فقال الله تعالى :﴿فاذكروا الله﴾ لا غير كذكر الصبيّ أباه.


الصفحة التالية
Icon