﴿ويشهد الله على ما في قلبه﴾ أنه موافق لكلامه ﴿وهو ألدّ الخصام﴾ أي : شديد الخصومة لك ولأتباعك لعداوته لك وقال الحسن : ألدّ الخصام أي : كاذب بالقول، وقال قتادة : شديد القسوة في المعصية جدل بالباطل، يتكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة. وفي الحديث :"أن أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم".
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٥٣
﴿وإذا تولى﴾ أي : انصرف عنك بعد إلانة القول وحلاوة المنطق ﴿سعى﴾ أي : مشى ﴿في الأرض ليفسد فيها﴾ قال ابن جرير بقطع الرحم وسفك دماء المسلمين ﴿ويهلك الحرث والنسل﴾ وذلك أنّ الأخنس كان بينه وبين ثقيف خصومة، فبيتهم ليلاً فأحرق زرعهم وأهلك مواشيهم، وقيل : وإذا كان والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل، وقيل : يظهر الظلم حتى يمنع الله تعالى بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل، وحكى الزجاج عن قوم : أنّ الحرث النساء والنسل الأولاد قال : وهذا ليس بمنكر لأنّ المرأة تسمى حرثاً أي : ويدل له قوله تعالى :﴿فائتوا حرثكم أنى شئتم﴾ (البقرة، ٢٢٣) ﴿وا لا يحب الفساد﴾ أي : لا يرضى به ؛ لأنّ المحبة وهي ميل القلب محالة في حقه تعالى : فهي مستعملة في حقه تعالى في معنى الرضا.
﴿وإذا قيل له اتق الله﴾ في فعلك ﴿أخذته العزة﴾ أي : حملته الأنفة والحمية على العمل
١٥٥
﴿بالإثم﴾ الذي يؤمر باتقائه ﴿فحسبه﴾ أي : كافيه ﴿جهنم﴾ جزاء وعذاباً، وهي علم لدار العقاب وهو في الأصل مرادف للنار، وسميت بذلك لبعد قعرها، وأصلها من الجهم وهو الكراهة والغلظ فالنون زائدة، وقيل : معرّب نقل من العجمية إلى العربية وتصرف فيه، وأصله كهنام أبدلت الكاف جيماً وأسقطت الألف وقوله تعالى :﴿ولبئس المهاد﴾ جواب قسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف للعلم به تقديره : جهنم، والمهاد الفراش.
﴿ومن الناس من يشري﴾ أي : يبيع ﴿نفسه﴾ أي : يبذلها في الجهاد أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل ﴿ابتغاء مرضاة الله﴾ أي : طلباً لرضاه، وقال أكثر المفسرين : نزلت في صهيب بن سنان الرومي أخذه المشركون في رهط من المؤمنين فعذبوهم، فقال لهم : إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني ؟
ففعلوا وكان شرط عليهم راحلة ونفقة فأقام بمكة ما شاء الله، ثم خرج إلى المدينة، فتلقاه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما في رجال فقال له أبو بكر :"ربح بيعك أبا يحيى" فقال : وما ذاك ؟
فقال : أنزل الله فيك قرآناً وقرأ عليه هذه الآية، فعلى هذا يكون يشري بمعنى يشتري لا بمعنى يبيع ويبذل.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٥٥
وقيل : نزلت في الزبير والمقداد بن الأسود وذلك أن كفار قريش بعثوا إلى النبيّ ﷺ وهو بالمدينة : إنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفراً من علماء أصحابك يعلموننا دينك، وكان ذلك مكراً منهم فبعث إليهم رسول الله ﷺ قال أبو هريرة : عشرة ومن جملتهم خبيب فقتلوهم وأسروا خبيباً قال آسره : والله ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب، والله وجدته يوماً يأكل قطفاً من عنب في يده وإنه لموثوق بالحديد وما بمكة من ثمرة إن كان إلا رزقاً رزقه الله خبيباً، ثم أرادوا قتله فخرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل وأرادوا أن يصلبوه فقال : دعوني أصلي ركعتين فتركوه حتى صلاهما ثم قال : لولا أخشى أن تحسبوا أنّ ما بي من جزع لزدت اللهمّ أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تبق منهم أحداً ثم أنشأ يقول :
*ولست أبالي حين أُقْتَل مسلماً ** على أيّ شق كان في الله مصرعي*
*وذلك في ذات الإله وإن يشأ ** يبارك على أوصال شلو ممزع*
ثم صلبوه حياً فقال : اللهمّ إنك تعلم أنه ليس أحد حولي يبلغ سلامي رسولك فأبلغه سلامي، ثم قام عقبة بن الحارث فقتله فلما بلغ النبيّ ﷺ هذا الخبر قال :"أيكم ينزل خبيباً عن خشبته وله الجنة ؟
". فقال الزبير : أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد، فخرجا يسيران بالليل ويكمنان بالنهار حتى وصلا إليه ليلاً، وإذا حول الخشبة أربعون من المشركين نيام فأنزله الزبير وحمله على فرسه وسارا فانتبه الكفار فلم يجدوه فأخبروا قريشاً فركب منهم سبعون فلما لحقوهما قذف الزبير خبيباً فابتلعته الأرض فسمي بليع الأرض، ثم رفع الزبير العمامة عن رأسه وقال : أنا الزبير بن العوام وأمي صفية بنت عبد المطلب، وصاحبي المقداد بن الأسود، فإن شئتم ناضلتكم وإن شئتم نازلتكم وإن شئتم انصرفتم، فانصرفوا إلى مكة وقدما على رسول الله ﷺ وجبريل عنده، فقال : يا محمد إن الملائكة لتتباهى بهذين من أصحابك فنزلت فيهما هذه الآية ﴿وا رؤوف بالعباد﴾ حيث أرشدهم لما فيه رضاه.
١٥٦
ونزل في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه :﴿يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم﴾ أي : الإسلام وقوله تعالى :﴿كافة﴾ حال من السلم لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب، كما قال القائل :
*أبا خراشة أما أنت ذا نفر ** فإن قومي لم تأكلهم الضبع*


الصفحة التالية
Icon