*في السلم تأخذ منا ما رضيت به ** والحرب تكفيك من أنفاسها جزع*
أي ادخلوا في جميع شرائعه، وذلك أنهم يعظمون السبت، ويكرهون لحوم الإبل وألبانها بعدما أسلموا، فأمروا أن يدخلوا في جميع شرائعه.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٥٥
ولا تتبعوا خطوات﴾
أي : طرق (الشيطان)، أي تزيينه من تحريم السبت ولحوم الإبل وألبانها. وقرأ نافع وابن كثير والكسائي : السَّلْم بفتح السين، والباقون بكسرها، وتقدم الكلام في خطوات لابن عامر، وقنبل وحفص والكسائي بضم الطاء ﴿إنه لكم عدوّ مبين﴾ ظاهر العداوة.
﴿فإن زللتم﴾ أي : مِلْتم عن الدخول في جميعه ﴿من بعد ما جاءتكم البينات﴾ أي : الحجج الظاهرة أنه حق ﴿فاعلموا أن الله عزيز﴾ لا يعجزه شيء عن انتقامه منكم ﴿حكيم﴾ في صنعه.
تنبيه : قول البيضاوي : حكيم لا ينتقم إلا بحق تبع فيه الزمخشري، وهو مذهب المعتزلة فإنهم يقولون : لا ينتقم إلا بقدر ما يستحقه العاصي، ومذهب أهل السنة أنه ينتقم ويعاقب من شاء بما شاء وإن كان مطيعاً ؛ إذ هو متصرّف في ملكه يفعل ما يشاء بمن شاء وإن لم يقع منه الانتقام إلا ممن أساء. وروي أنّ قارئاً قرأ غفور رحيم بدل عزيز حكيم فسمعه أعرابي لم يقرأ القرآن فأنكره وقال : إن كان هذا كلام الله فلا يذكر الغفران عند الزلل ؛ لأنه إغراء عليه.
قوله تعالى :﴿هل ينظرون﴾ استفهام في معنى النفي أي : ما ينظرون ﴿إلا أن يأتيهم الله﴾ أي : أمره أو بأسه كقوله تعالى :﴿أو يأتي أمر ربك﴾ (النحل، ٣٣) أي : عذابه وقوله تعالى :﴿جاءهم بأسنا﴾ (الأنعام، ٤٣) أو ﴿يأتيهم الله ببأسه﴾ (، ) فحذف المأتيّ به للدلالة عليه بقوله تعالى :﴿إن الله عزيز حكيم﴾.
﴿في ظلل﴾ جمع ظلة وهي ما أظلك ﴿من الغمام﴾ أي : من السحاب الأبيض سمي غماماً لأنه يغم أي : يستر، وإنما يأتيهم العذاب فيه لأنه مظنة الرحمة وهي نزول المطر فإذا جاء منه العذاب كان أفظع ؛ لأنّ الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب، فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير.
﴿و﴾ تأتيهم ﴿الملائكة﴾ فإنهم الواسطة في إتيان أمره أو الآتون على الحقيقة ببأسه. قال البغويّ : والأولى في هذه الآية وفيما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها ويكل علمها إلى الله تعالى، ويعتقد أن الله تعالى منزه عن سمات الحوادث وعلى ذلك مضت أئمة السلف وعلماء السنة انتهى.
وأما أئمة الخلف فإنهم يؤوّلون هذه الآية بنحو ما أوّلنا به وأمثالها، بحسب المقام وهو أحكم، ومذهب السلف أسلم، وكان مكحول ومالك والليث وأحمد يقولون في هذا وأمثاله :
١٥٧
أمرّوها كما جاءت بلا كيف.
﴿وقضي الأمر﴾ أي : أمر هلاكهم وفرغ منهم ووضع الماضي موضع المستقبل لدنوّه وتيقن وقوعه ﴿وإلى الله ترجع الأمور﴾ في الآخرة فيجازيهم، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون بضمّ التاء وفتح الجيم وقوله تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٥٥
﴿سل﴾ أمر للرسول أو لكل أحد ﴿بني إسرائيل﴾ توبيخاً ﴿كم آتيناهم﴾ كم استفهامية معلقة سل عن المفعول الثاني وهي ثاني مفعولي آتيناهم ومميزها ﴿من آية﴾ أي : معجزة ﴿بينة﴾ أي : ظاهرة في الدلالة على صدق من جاء بها كقلب العصا حية، وإبراء الأكمه والأبرص وفلق البحر وإنزل المنّ والسلوى فبدّلوها كفراً.
﴿ومن يبدّل نعمة الله﴾ أي : ما أنعم به عليه من الآيات لأنها سبب الهداية التي هي أجل النعم كفراً ﴿من بعدما جاءته﴾ أي : وصلته وتمكن من معرفتها ﴿فإنّ الله شديد العقاب﴾ فيعاقبه أشدّ عقوبة لأنه ارتكب أشدّ جريمة وهي التبديل.
﴿زين للذين كفروا الحياة الدنيا﴾ أي : حسنت في أعينهم وأشربت محبتها في قلوبهم، حتى تهالكوا عليها، وأعرضوا عن غيرها، والمزين في الحقيقة هو الله تعالى، إذ ما من شيء إلا وهو فاعله، وكل من الشيطان والقوّة الحيوانية، وما خلق الله فيها من الأمور البهيمية والأشياء الشهية مزين بالعرض، واختلف في سبب نزول هذه الآية فقيل : نزلت في مشركي العرب أبي جهل وأصحابه وكانوا يتنعمون بما بسط لهم في الدنيا من المال ويكذبون بالمعاد ﴿ويسخرون من الذين آمنوا﴾ أي : يستهزئون بالفقراء من المؤمنين قال ابن عباس : أراد بالذين آمنوا عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وصهيباً وبلالاً وخباباً وأمثالهم، وقال قتادة : نزلت في المنافقين عبد الله بن أبيّ وأصحابه كانوا يتنعمون في الدنيا، ويسخرون من ضعفاء المؤمنين وفقراء المهاجرين ويقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم، وقال عطاء : نزلت في رؤساء اليهود من بني قريظة والنضير وقينقاع سخروا من فقراء المهاجرين فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريظة والنضير بغير قتال.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٥٨


الصفحة التالية
Icon