روي أن أهل الجاهلية كانوا لم يساكنوا الحيض ولم يؤاكلوهنّ كفعل اليهود، فإنّ اليهود كانت إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت، ولم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجامعوها في البيت، واستمرّ ذلك إلى أن سأل أبو الدحداح في نفر النبيّ ﷺ عن ذلك فقال الله تعالى :﴿قل﴾ لهم ﴿هو﴾ أي : الحيض أو مكانه ﴿أذى﴾ قذر أو محله قذر.
فإن قيل : لماذا ذكر الله تعالى يسئلونك بغير واو ثلاثاً ثم بها ثلاثاً ؟
أجيب : بأنّ السؤالات الأول كانت في أوقات متفرّقة، والثلاثة الأخيرة كانت في وقت واحد، فلذلك ذكرها بحرف الجمع، وهو واو العطف، وهي الجمع في الحكم لا الزمان، واعترض هذا الجواب بأنه كان يجب على هذا أن تدخل الواو على اثنين من الثلاثة الأخيرة ؛ لأنّ العطف يكون في الثانية والثالثة منها، وأجيب : بأنهم لما سألوا عما كانوا ينفقون، فأجيبوا بمصرف النفقة أعادوا سؤالهم بالواو ما ينفقون، فأجيبوا : بالعفو، ولما كان السؤال الثاني عن مخالطة اليتامى في النفقة، وهو مناسب لما قبله عطف بالواو، ولما كان الثالث سؤالاً عن اعتزال الحيض كما تعتزل اليتامى فناسب ما قبله في الاعتزال عطف بالواو، ولا كذلك الثلاثة الأول ؛ إذ لا تعلق بينها.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٦٤
فاعتزلوا النساء﴾
أي : اتركوا وطأهنّ ﴿في المحيض﴾ أي : وقته أو مكانه ؛ لأنّ ذلك هو الاقتصاد بين إفراط اليهود، وتفريط النصارى فإنهم كانوا يجامعونهنّ ولا يبالون بالحيض، وما استدلّ به البيضاوي من قوله ﷺ "إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن، ولم نأمركم بإخراجهنّ من البيوت كفعل الأعاجم" قال شيخنا القاضي زكريا : لم أره بهذا اللفظ في بعض التفاسير لغيره.
وقوله تعالى :﴿ولا تقربوهنّ﴾ أي : بالجماع ﴿حتى يطهرن﴾ تأكيد للحكم وبيان لغايته، وهو أن يغتسلن بعد الانقطاع، ويدل عليه صريحاً قراءة شعبة وحمزة والكسائي بتشديد الطاء والهاء أي : يتطهرن بمعنى يغتسلن والباقون بسكون الطاء وضمّ الهاء مخففة والتزاماً.
قوله تعالى :﴿فإذا تطهرن فأتوهنّ﴾ أي : للجماع فإنه يقتضي تأخر جواز الإتيان عن الغسل، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : إن طهرت لأكثر الحيض وهو عنده عشرة أيام جاز قربانها قبل الغسل.
١٦٦
﴿من حيث أمركم الله﴾ بتجنبه في الحيض وهو القبل ولا تتعدّوه إلى غيره. أمّا الملامسة فيما عدا ما بين السرّة والركبة والمضاجعة معها قبل الغسل، ولو قبل إنقطاع الحيض فجائز، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها :"كان يأمرني ﷺ فأتزر فيباشرني وأنا حائض وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف فأغسله وأنا حائض".
وعن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت :"حضت وأنا مع النبيّ ﷺ في الخميلة فانسلت فخرجت منها فأخذت ثياب حيضتي، فلبستها فقال لي رسول الله ﷺ أنفست ؟
قلت : نعم، فدعاني فأدخلني معه في الخميلة" ﴿إن الله يحب﴾ أي : يثيب ويكرم ﴿التوّابين﴾ من الذنوب ﴿ويحب المتطهرين﴾ أي : المتنزهين عن الفواحش والأقذار، كمجامعة الحائض والإتيان في غير القبل.
﴿نساؤكم حرث لكم﴾ أي : مزرع ومنبت للولد كالأرض للنبات ﴿فأتوا حرثكم﴾ أي : محله وهو القبل ﴿أنى﴾ أي : كيف ﴿شئتم﴾ من قيام وقعود واضطجاع وإقبال وإدبار.
وروى الشيخان أنّ اليهود كانوا يقولون : من جامع امرأته من دبرها أي : خلفها في قبلها جاء ولدها أحول، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فنزلت هذه الآية.
﴿وقدّموا لأنفسكم﴾ من الأعمال الصالحة، كالتسمية عند الجماع وطلب الولد أي : ما يدخر لكم من الثواب ﴿واتقوا الله﴾ في أمره ونهيه ﴿واعلموا أنكم ملاقوه﴾ بالبعث، فتزوّدوا ما لا تُفْتَضَحون به فإنه يجازيكم بأعمالكم ﴿وبشر المؤمنين﴾ بالكرامة والنعيم الدائم، أمر الرسول ﷺ أن ينصحهم ويبشر من صدقه وامتثل أمره منهم. وقوله تعالى :﴿ولا تجعلوا الله عرضة لإيمانكم﴾ نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه، لما حلف أن لا ينفق على مسطح حين خاض في حديث الإفك لافترائه على عائشة رضي الله تعالى عنها، أو في عبد الله بن رواحة حين حلف أن لا يكلم ختنه أي : زوج أخته بشير بن النعمان، ولا يصلح بينه وبين أخت.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٦٤
فالعرضة كل ما يعرض فيمنع عن الشيء أي : لا تجعلوا الحلف سبباً مانعاً لكم من البرّ والتقوى يدعى أحدكم إلى صلة رحم أو برّ فيقول : حلفت بالله أن لا أفعله، فيعتل بيمينه في ترك البرّ كما قال تعالى :﴿أن تبرّوا﴾ أي : مخالفة أن لا تبرّوا، فهو في موضع نصب مفعول من أجله. وعند الكوفيين لئلا تبرّوا كقوله تعالى :﴿يبين الله لكم أن تضلوا﴾ (النساء، ١٧٦) أي : لئلا تضلوا، وقال أبو إسحق في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف أي : أن تبرّوا وتتقوا خير لكم وقيل : التقدير في أن تبرّوا، فلما حذف حرف الجرّ نصب، وقيل : هو في موضع جرّ بالحرف المحذوف.


الصفحة التالية
Icon